بائعة الورد
بقلم: سمير الخطيب
---
عند زاوية الشارع المؤدي إلى محطة الحافلات، حيث يتقاطع الصمت مع الضجيج، ويلتقي العابرون دون أن يلتقوا حقًا، كانت تقف كل صباح امرأة نحيلة تحمل سلة من الورد. لم يكن في ملامحها ما يستوقف العين المستعجلة؛ امرأة بسيطة، شالٌ رمادي يلف كتفيها كأنه يحتضن برودة العالم قبل أن تصل إليها، وابتسامة صغيرة محفوظة للغرباء — تلك الابتسامة التي يتعلّمها الذين صاروا جزءًا من المشهد اليومي للمدينة، لا من ذاكرتها..عيناها كان فيهما شيء لا يُشترى ولا يُباع: تلك اللمعة التي تُشبه رجفة الضوء على زجاج نافذة في صباح بارد، أو بقايا حلم لم ينطفئ تمامًا.
كانت تبيع الورد منذ سنين طويلة، حتى صارت جزءًا من جغرافيا المكان، علامة مألوفة كإشارة المرور أو عمود الكهرباء. تعرف أنواع الزبائن كما يعرف البحّار اتجاهات الريح: العاشقون الذين يستعجلون وردة حمراء قبل أن ينطفئ اللهف أو تنفد الشجاعة، الأزواج الذين يشترون وردة في محاولة يائسة لرتق صمت بارد تسلل إلى بيت كان يومًا دافئًا، والمارة الذين يشترون وردة ليكسروا فراغ يومهم أو ليملؤوا فراغًا أعمق لا يعرفون كيف يسمّونه, وعاشقي الورد ومقدريه الذين يختاروا الورد بعناية تليق بالمهدى اليها .
أما هي، فلم يشترِ لها أحد وردة قط. ولم يخطر ببال أحد أن بائعة الورد قد تحتاج إلى وردة.
هل فكّرت في ذلك؟ ربما. في لحظات الصمت بين "زبون" وآخر، حين يمتد الصباح كطريق لا ينتهي، وتنظر إلى الورد في سلتها وكأنها تنظر إلى مرايا صغيرة تعكس كل ما لم تحصل عليه. لكنها لم تقل شيئًا، لم تشتكِ، لم تطلب. صارت الأشياء التي لا نقولها جزءًا منها، تترسب في الصدر طبقة فوق طبقة، حتى تنسى أنها كانت يومًا تحلم بأن نُرى.
لأن أقسى أنواع الغياب ليس أن تكون بعيدًا، بل أن تكون حاضرًا ولا يراك أحد. أن تقف كل صباح في نفس الزاوية، تبيع الجمال للآخرين، وتعود كل مساء فارغة اليدين، فارغة القلب. أن تصير جزءًا من المشهد اليومي للمدينة، لكن لا أحد يتوقف ليسأل: من هذه المرأة؟ ما حكايتها؟ هل تحلم؟ هل تحزن؟ هل تنتظر شيئًا؟
ذات صباح، كان البرد أشدّ من العادة، والسماء رمادية كأنها نسيت كيف تكون زرقاء. مرّ أمامها موظف شاب، يحمل حقيبته السوداء ويبدو كأنه مستعجل على أن يتأخر — تلك المفارقة اليومية التي يعيشها سكان المدن. توقف فجأة، كأن شيئًا غير مرئي شدّه من كتفه. نظر إلى الورد، ثم إليها. لحظة قصيرة، لكنها كانت كافية لتشعر أن أحدًا رآها — لا السلة، لا الورد، بل هي.
لم يقل شيئًا. فقط مدّ يده ليأخذ وردة بيضاء من السلة. دفعتْها أناملها بخفة وهي تعطيه الورد، وانتظرت — كما ينتظر المرء كلمة طيبة بعد يوم طويل، أو ابتسامة صادقة في عالم يبتسم كثيرًا دون أن يعني شيئًا.
لكنه انصرف كما جاء. ولم يلتفت.
عادت تنظر إلى سلتها، إلى الورد الذي يذبل أسرع مما ينبغي — كأن الورد نفسه يعرف أنه ليس مقصودًا لذاته، بل لمعنى مؤقت في قلب شخص آخر. نظرت إلى أصابعها التي أصبحت تعرف ملمس الورد أكثر مما تعرف دفء يد إنسان. وتساءلت، في سرّها، عن تلك المفارقة الصامتة: كيف يمكن أن تكون محاطًا بالجمال وتظل وحيدًا؟ كيف يمكن أن تمنح الفرح يوميًا ولا تتذوقه؟
فكرت أن العالم يعلّمنا أن القيمة في الإنجاز، في الظهور، في الامتلاك. لكنه ينسى أن يعلّمنا الدرس الأهم: أن القيمة الحقيقية تكمن في أن نُرى. أن نُعترف بنا كبشر، لا كوظائف أو أدوات. نحن لسنا ما نبيعه، ولا ما ننتجه، ولا حتى ما نقدمه للآخرين. نحن — ببساطة — موجودون. وهذا الوجود نفسه يستحق أن يُرى، أن يُعترف به، ولو بنظرة واحدة صادقة.
في المساء، وعندما جمعت بضاعتها المتبقية — تلك الورود التي لم ينتبه إليها أحد، مثلها تمامًا — وجدت بين الورد ورقة صغيرة، ربما سقطت دون أن تنتبه. فتحتها ببطء، بتلك الحذر الذي يحمله من تعوّد على خيبات صغيرة.
كانت قصاصة ورق ممزقة من دفتر، مكتوب عليها بخط غير متقن، كأن صاحبه كتبها على عجل أو بخجل:
"مع أنكِ تبيعين الورد، إلا أن الورد كله يبدو خجلًا قربك."
توقف العالم لثانية. نظرت حولها. الشارع كان شبه فارغ، والمصابيح ترتجف في الريح كأنها تحاول أن تقول شيئًا بلغة الضوء. لم تعرف من كتبها، وربما لن تعرف أبدًا. ولعل هذا ما جعل الكلمات أكثر صدقًا — فالكلمات التي لا تنتظر شكرًا أو ردًا هي الكلمات التي تُقال حقًا.
أحست بشيء غريب يصعد من صدرها، شيء يشبه الدفء، أو الدهشة، أو ربما مزيج منهما. أدركت أن الوردة التي تمنتها طوال هذه السنوات لم تكن وردة بالمعنى الحرفي. لم تكن ساقًا أخضر ولا بتلات ملونة. كانت شيئًا أبسط وأعمق في آن: اعترافًا صغيرًا بأنها مرئية.
فالورود تذبل، والكلمات تبقى. والاعتراف بوجود الآخر — هذا الاعتراف البسيط الذي نظنه تافهًا — هو أجمل هدية يمكن أن نقدمها في عالم يمضي مسرعًا، وقد نسي أن يتوقف ليرى.
عادت إلى بيتها تلك الليلة بخفة لم تعهدها منذ زمن طويل، كأن حمولة خفية رُفعت عن كتفيها. طوت الورقة بعناية ووضعتها بين صفحات كتاب قديم، وأدركت أن جوهر الوحدة الإنسانية ليس في أن نكون وحدنا، بل في أن نكون محاطين بالناس لكننا غير موجودين في وعيهم. أن نُختزل في وظيفة، أو دور، أو صورة عابرة.
وأدركت أيضًا أن جوهر الحب، بمعناه الأوسع، ليس في الهدايا الفاخرة أو الكلمات المنمّقة، بل في شيء أبسط بكثير: أن يراك أحد — لا كبائع، ولا كخادم، ولا كأداة — بل كإنسان له روح ترتجف، وقلب ينبض، وحاجة عميقة إلى أن يُعترف بوجوده.
في الصباح التالي، عادت إلى زاويتها كالعادة. نفس الشال الرمادي، نفس السلة، نفس الابتسامة الصغيرة. لكن شيئًا ما كان مختلفًا. ربما الطريقة التي نظرت بها إلى الورد، أو إلى المارة، أو إلى نفسها في انعكاس زجاج واجهة المحل المجاور.
كانت لا تزال بائعة ورد. لكنها لم تعد فقط بائعة ورد.
كانت امرأة رآها أحدهم. وكان ذلك يكفي ليغيّر كل شيء، دون أن يتغير شيء.
لم تحصل على باقة فاخرة، ولا على هدية ثمينة. حصلت على جملة مكتوبة بخط رديء على ورقة ممزقة. لكن تلك الجملة فعلت ما لم تفعله كل ورود العالم: جعلتها تشعر بأنها موجودة.
وفي عالم ينسى أن يتوقف، في مدينة تعلّمنا أن نمضي دون أن ننظر، في زمن يختزلنا إلى وظائف وأرقام وصور عابرة — يكفي أن يراك أحدهم، حقًا يراك، لتعرف أنك لست شبحًا.
يكفي جملة واحدة لتعرف أنك إنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .