بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 10 ديسمبر 2025

البخيل بقلم الراقي سامي المجبري

 البخيل. بقلمي سامي المجبري. بنغازي ليبيا.

قصة قصيرة 


كان "سليمان" رجلاً خمسينيّاً نحيل الجسد، متجهّم الملامح، يتدلّى من كتفيه معطف قديم حافظ عليه كأنّه كنز ثمين، لا لأنه غالٍ، بل لأنه يرفض شراء غيره. عرفه أهل الحيّ بـ"سليمان البخيل"، حتى إن الأطفال كانوا يتهامسون باسمه وكأنّه أسطورة من أساطير الحكايات، بينما الكبار كانوا يذكرونه في المجالس عند الحديث عن المال وكيف يمكن أن يتحوّل الإنسان إلى أسير لدراهمه.

امتلك سليمان دكاناً صغيراً يبيع فيه كل ما يمكن أن يدرّ ربحاً ولو قليلاً؛ من السكر إلى المسامير، ومن الصابون إلى الدفاتر. لم يكن يُعرف عنه الكرم في وزن البضاعة، ولا في كلمة طيبة، ولا حتى في الابتسامة. كان يعدّ النقود عدّاً لا يكتفي فيه بالعشرة والعشرين، بل يعيد كلّ فئة ثلاث مرات على الأقل، ويقربها من الضوء حتى يكاد يلتهمها بعينيه.

ورغم أن دكانه كان يدرّ عليه دخلاً معقولاً، إلا أنّ حياته بدت بائسة، خالية من أيّ مظهر للراحة. يعيش في غرفة ضيقة فوق الدكان، أثاثها هزيل، وفرشتها بالية، وكأنه يخشى أن يكلّفه شراء سرير جديد ديناراً إضافياً. كان يطهو طعامه بنفسه توفيراً لثمن الطاهي، ويقتصد في الزيت كأن قطرة منه تساوي قطعة ذهب. لا يشعل المصابيح إلا بعد غروب الشمس تماماً، وحتى ذلك الحين، لا يضيء إلا مصباحاً واحداً.

ذات يوم، جاءه طفل صغير يرتجف برداً، يحمل في يده عملة معدنية واحدة. قال بخجل:

 أريد قطعة خبز صغيرة يا عم سليمان.

نظر إليه سليمان بنفاد صبر وقال:

 هذه العملة لا تكفي للخبز.

رد الطفل:

 لكنها كل ما أملك.

تنهّد سليمان بصوت ضجر، وأعاد له العملة من دون أن يرفّ قلبه أو يشعر بالأسى. خرج الطفل حزيناً، وعاد سليمان لينشغل بالعَدّ كعادته، دون أن يعير العالم أيّ اهتمام.

لكن تلك الليلة كانت بداية تغيّر لم يتوقّعه.

حين ألقى سليمان بجسده المنهك على فراشه الخشن، سمع طرقات خفيفة على بابه. تجاهلها، ظنّاً منه أنها الريح، لكن الطرقات عادت أقوى. قام متذمّراً وفتح الباب، فإذا برجل عجوز، ملامحه رقيقة، وعمامته بيضاء كأنها ضوء قمر.

قال العجوز بصوت هادئ:

السلام عليك يا سليمان.

وعليك السلام، من أنت؟ وماذا تريد في هذا الوقت؟

ابتسم العجوز وقال:

 جئت أسألك: ماذا ستفعل بكل هذا المال الذي تجمعه وتمسك به كمن يمسك روحه؟

تجهم سليمان، واعتبرها وقاحة.

 ما شأنك أنت؟ المال مالي، أكسبه بتعب جبيني.

 وهل ستأخذه معك عندما يجيء يومك؟

أغلق سليمان الباب بقوة دون أن ينتظر المزيد. لكن قلبه، على الرغم من قسوته، ارتجف للحظة، لأن كلمات العجوز كانت كنبضة غير متوقعة أعادت صدى عاش داخله طويلاً.

في اليوم التالي، جاءت امرأة مسنّة إلى دكانه تطلب دواء لابنها المريض بالدَين، فقد نفد ما تملك من مال. كانت تبكي بحرارة، وعلى وجهها آثار تعب السنين. ولكن سليمان لم يلن قلبه.

 الدكان ليس مؤسسة خيرية، عودي عندما يكون معك ثمن ما تريدين.

خرجت المرأة وهي تدعو له بالهداية، فابتسم باستهزاء.

ذلك المساء أيضاً، ظهر العجوز ذاته على بابه.

 كم قلباً كسرت اليوم يا سليمان؟

 دعني وشأني! من أنت؟ ولماذا تتدخل في حياتي؟

 أنا مرآتك تلك التي لا تحب أن تنظر إليها.

ارتجف سليمان، لكنه لم يبدِ اقتناعاً.

أجاب العجوز:

 المال نعمة، لكنك جعلته لعنة على نفسك وعلى الناس. ومع ذلك لا يزال أمامك وقت لتغيّر ما يمكن تغييره.

رحل العجوز، وظل الباب مفتوحاً خلفه كأن الريح صارت شاهدة على حوار لا يريد سليمان الاعتراف به.

أصبح سليمان يراه كل ليلة، ثم كل مساء، حتى صار وجود العجوز جزءاً من أيامه. كان يظهر ليسأله سؤالاً واحداً يتكرر كل مرة:

 ماذا ستفعل بكل هذا المال؟

ومع تكرار السؤال، بدأ شيء ما يتصدع داخل سليمان، كأن قشرة سميكة حول قلبه بدأت تنشقّ ببطء.

وفي صباح يوم شديد البرودة، رأى سليمان الطفل الذي جاءه أول مرة، جالساً قرب الدكان يرتجف، ولم يكن معه شيء. اقترب منه بتردد، وقال:

 أين أهلك يا صغير؟

أجاب الطفل بصوت متعب:

 أمي مريضة، وأنا أحاول جمع ما يكفي لشراء دواء لها.

سكت سليمان.

للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، شعر بوخزة في صدره لم يعرفها من قبل. كأنه يسمع همس العجوز: ماذا ستفعل بكل هذا المال؟

دخل الدكان، وأحضر رغيف خبز وبعض الطعام، وقدّمه للطفل دون أن ينظر في عينيه.

 خذ هذا ولا تخبر أحداً.

ابتسم الطفل ابتسامة واسعة خرجت من قلب موجوع لكنها مضت كضوء.

ذلك اليوم مرّ ثقيلاً على سليمان. كان يشعر بأنه فعل شيئاً غير مألوف، وكأن البضاعة التي أعطاها للطفل انتُزعت من روحه لا من دكانه. لكنه في الوقت ذاته شعر براحة غريبة لم يعرف لها اسماً.

عاد العجوز في المساء وقال له مبتسماً:

 خطوة صغيرة يا سليمان. لكنها بداية.

سأله سليمان:

 من أنت حقاً؟ ولماذا تهتم بي؟

 أنا ظلّك الذي تخلّيت عنه منذ سنوات، يوم آثرت المال على الإنسان، ويوم وضعت جداراً بينك وبين الرحمة. جئت لأذكّرك أنك ما زلت قادراً على أن تكون إنساناً.

ثم اختفى العجوز فجأة كما لو أن جسده أصبح ضباباً خفيفاً ذاب في الهواء.

منذ ذلك اليوم، بدأ سليمان يتغيّر. لم يكن التغيير سريعاً مثل انقلاب الريح، لكنه كان تحوّلاً ثابتاً مثل نضوج الثمار. صار يعطي المحتاج تخفيضاً بسيطاً، ويمنح الأطفال الحلوى القديمة قبل انتهاء صلاحيتها، ويبوح بكلمة طيبة لا يريد الاعتراف أنه كان يفتقدها هو نفسه.

ومع كل فعل صغير يقوم به، كان يشعر بأن ثِقل سنوات من الجشع تتساقط عنه حبة حبة.

وذات مساء، جلس سليمان في غرفته يتأمل كومة من النقود جمعها طوال حياته، وقال بصوت منخفض:

 ماذا سأفعل بكل هذا حقاً؟

تذكّر الطفل، وتذكّر المرأة المسنّة، وتذكّر العجوز الذي لم يعد يراه بعد أن بدأ يتغيّر.

فهم الرسالة.


في صباح اليوم التالي، أغلق دكانه لأول مرة منذ عشرين عاماً، وذهب إلى بيت الطفل حاملاً كيساً من الطعام وبعض المال. ثم قصد بيت المرأة المريضة، وسدّد دين الدواء عنها. ومن هناك إلى مسجد الحي، حيث تبرع بجزء كبير من ماله للفقراء.

كان الناس ينظرون إليه باستغراب، لا يعرفون إن كان هذا هو سليمان الذي عرفوه أم شخصاً آخر يشبهه.

وعندما عاد إلى دكانه مساءً، وجد العجوز واقفاً على عتبة الباب، لكن هذه المرة كان وجهه أكثر نوراً، وابتسامته أعمق.

قال له العجوز:

 الآن فقط أصبحت غنياً.

قال سليمان بخجل يشبه الاعتراف:

 أشعر أن قلبي صار أخفّ.

 لأنك حرّرته من قيود لم تصنع سوى الألم. المال وسيلة يا سليمان، وليس سجناً. استخدمته اليوم كما يجب ففتح لك باباً إلى إنسانيتك.

ثم رفع العجوز يده مودّعاً، وانحنى الضوء حوله، واختفى مرة أخرى، لكن سليمان علم هذه المرة أنه لن يعود… لأنه لم يعد بحاجة إليه.

وقف سليمان أمام دكانه، يتنفس بعمق، وكأنه يرى العالم لأول مرة منذ زمن طويل. كان الليل ساكناً، لكنه لم يشعر بالخوف، بل شعر بالطمأنينة، تلك التي لم يعرف معناها إلا عندما أدرك أن المال الذي لا تصل به إلى القلوب، لا يصل بك إلى نفسك.

وفي تلك الليلة، نام سليمان قرير العين، بلا عدّ للنقود، بلا خوف من الغد نام وفي قلبه مساحة رحبة لم يكن يعرف أنها موجودة.

وهكذا مات البخل في داخله قبل أن يموت هو، وعاش ما تبقى من عمره رجلاً جديداً، يوزّع خيره بكرم، ويبتسم كأن وجهه لم يعرف العبوس قطّ

، وكأن روح العجوز ما زالت تباركه من بعيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .

قارئة الفنجان بقلم الراقية ياسمين عبد السلام هرموش

 *قارئةُ الفنجان* بقلمي ياسمين عبد السلام هرموش  "هل انتهيتَ من قهوتِكَ؟ أعطني فنجانَكَ…" قالتها الغجريّةُ التي بزغتْ من العدم، كأ...