بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 6 ديسمبر 2025

العائد إلى دمشق بقلم الراقي أحمد سعود عوض

 

العائد إلى دمشق

أحمد سعود عوض


 


(1)


 

المنفى


 

يا شامُ…

كم مرَّ من ليلٍ فوق أكتافي،

وأنا أعدُّ المنافي

كما يَعُدّ الجرحُ أنفاسَهُ،

وأستدلُّ عليكِ بنجمةٍ

سقطتْ في الشمال.

 

كانت المطاراتُ وجهي،

والمدنُ التي لا تُشبهني مرآتي.

كنتُ أُطفئُ الحنينَ بالمطر،

ثم أشعلهُ

كلّما ناداني ترابٌ

لا أعرفُ اسمه،

لكنني أعرفُ أنّه أنتِ.

 

يا أمَّ الضوء،

يا لُغتي التي تلعثمتْ حين غبتِ،

كم من عامٍ ذابَ في صقيعٍ لا يذوب،

وكم من صباحٍ أضاءَ

ولم يُدفئ قلبي!

 

كأنّ الغربةَ ظلٌّ أطولُ منّي،

يردُّني، كلما حاولتُ أن أنساكِ،

إلى بدايتي فيكِ.

 

 


(2)


الذاكرة


 

أُغمضُ عيني،

فتنفتحُ الأبوابُ على الحارةِ الأولى:

زيتٌ على الجدران،

وأطفالٌ يركضون

نحو رائحةِ الخبز.

 

أسمعُ صوتَ أمّي

تناديني من شرفةٍ

لا تزالُ مضاءةً بالانتظار،

وأرى جاري يسكبُ في فنجانه

أمانَ الجيران

وحكاياتِ المساء.

 

الذاكرةُ عندي ليست صورًا،

بل أصواتٌ…

ونورٌ ينسكبُ من نوافذِ الجامعِ الأموي،

وصدى تكبيرٍ

يتسللُ من بين مآذنِ الصباح.

 

في سوقِ الحميدية

العطرُ يُعلِّمُ المارّةَ معنى التاريخ،

وفي قصرِ العظم

تتجوهرُ الحكايةُ بالحنين.

 

بيتُ عنبرَ

ما زالَ يُرتِّبُ القصصَ على الرفوف،

والشارعُ المستقيمُ…

ما زال يمتدُّ في قلبي

كأنّه طريقُ العودةِ إلى نفسي.

 

 


(3)


 

العودة


 

أعودُ…

وفي عينيّ ارتجافُ المسافة،

وفي حقيبتي

آخرُ حروفِ الغربة.

 

وحين فُتحَ بابُ الطائرة،

تسلّل الهواءُ إليّ

كما يدخلُ الحلمُ صدرَ النائم…

فبكيتُ.

 

لم أبكِ لأنّي وصلتُ،

بل لأنّ قلبي سبقني.

 

المخيمُ ينتظرني

عندَ أوّلِ زقاق،

ينفضُ عن كتفيهِ الغبارَ

ويضحك:

"ها قد عدتَ يا ولدي".

 

غسلتُ وجهي بترابِ الأرض،

فعاد وجهي لي،

واستعادتْ قدمايَ

خُطاها القديمة.

 

قاسيونُ هناك،

يمدُّ لي يدًا من ضوءٍ قديم،

كأنّه يقولُ:

ما من غريبٍ في دمشق…

إلّا الزمن.

 

 


(4)


اللقاء


 

جلستُ في المقهى

الذي تركتُه كما كان:

الكرسيُّ ذاته،

والنادلُ يسألني:

"قهوةٌ مُرّة… أم على الطريقة القديمة؟"

 

ضحكتُ،

لا لأنّي تذكرتُ،

بل لأنّ شيئًا في داخلي

عاد ليبتسم.

 

يا شامُ…

كلُّ حجرٍ فيكِ يعرفُ اسمي،

وكلُّ نسمةٍ

تناديني كما كانت.

 

الجرسُ والأذانُ

يتعانقان في المساء،

كأنّ التاريخَ

يُعيدُ ترتيلَه الأول.

 

بابُ شرقيٍّ مفتوحٌ للعائدين،

وبابُ كيسانَ يهمسُ لي:

"هنا ابتدأتِ الدروب،

وهنا تنتهي…

لتبدأ من جديد".

 

يا شامُ،


ما أشهى أن أموتَ على صدرك،

مكتفيًا بقبلةِ هواءٍ

تُعيدني طفلًا

يكتبُ على جدارِ المدرسة:

 

"العودةُ ليستْ إلى المكان،

بل إلى النفسِ التي تذكّرت".

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .

دهاليز الغفران بقلم الراقي طاهر عرابي

 «دهاليز الغفران»  قصيدة للشاعر والمهندس طاهر عرابي دريسدن – كُتبت في 11.05.2025 | نُقِّحت في 08.12.2025 لقد دخلتُ هذه الدهاليز. لكنني لم أك...