بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 8 ديسمبر 2025

لوحة وظل بقلم الراقي طارق الحلواني

 لوحة وظل – ق.ق

▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎

في قلب حيّ الجمالية، حيث تتجاور البيوت مثل حروف قديمة تصرّ على البقاء، كان يعيش في شقته الضيقة كمن يجرّ يومه بلا أرض.

سقف مرتفع، مشربية خشبية مهترئة، بلاط متشقق، ومطبخ لا يتسع إلا لنَفَس واحد.

ورغم كل ذلك، كان يؤمن بأنه فنان عبقري.. وأن العالم يتلكأ في اكتشافه.

كل طرق على الباب كان يسمعه تحية لعبقريته:

صاحب البيت؟ جاء يبشّر بإعجابه.

محصل الكهرباء؟ سمع عن لوحته الأخيرة.

عامل الغاز؟ ربما يريد شراء أعماله!

ظلّ يعيش في وهمه الهادئ حتى جاء ذلك اليوم.

طرقة خفيفة.. مختلفة.

فتح الباب، فوجد فتاة في أوائل العشرين، مرهقة الملامح لكن الحياة تتشبث بعينيها. سألت عن والدها—جارهم الذي خرج يتمشّى قرب حديقة الأزهر ولم يعد.

قال إنه سمعه يغلق الباب منذ قليل.

شكرته وهمّت بالرحيل، لكنه دعاها للدخول وشرب الشاي، وكأنه يريد أن يثبت لنفسه أنه “فنان مهذّب”.

لكن شقته لم تساعده؛ الفوضى تتكدّس، والغبار فوق اللوحات، ورائحة الطعمية والبخور تملأ المكان.

جلست قرب المشربية تترقب عودة أبيها، بينما ذهب هو إلى المطبخ فلم يجد سوى الشاي.. بلا سكر.

سألها عن عدد القطع، فردّت بابتسامة قصيرة:

"أنا بشربه من غير سكر."

عاد بالكوبين، فوجدها واقفة أمام لوحته التجريدية التي يعتبرها قلبه.

قالت وهي تحدّق في الخطوط:

"الغريب.. إن كل الخطوط بتهرب. بس مفيش ولا خط كمل للنهاية."

تجمّد.

لم يعتد أن يلمسه أحد بهذا الهدوء.

سأل بتوتر:

– بتدرسي فن؟

قالت ببساطة:

"لا.

الصبح جامعة، بعد الظهر في محل كشري، وبالليل بدرب موسيقى.

اللي يجري طول اليوم.. بيعرف يشوف مين واقف مكانه."

كانت كلماتها ضوءًا لا يترك ظلًا.

انتقلت إلى لوحة أخرى في الزاوية. أشارت إلى خط قصير وقالت:

"شايفه؟

ده مش خط فنان.

ده خط واحد خايف يرسم أطول.. فيعمل واحد صغير ويقول لنفسه: كفاية."

ارتعش قلبه.

لم تكن تقرأ لوحة.. بل تقرأه.

جلس يحاول تثبيت صوته، لكنها تابعت بنبرة هادئة:

"إنت فنان.. بس محتاج تكملة.

نص موهبة.

والنص التاني شغل.. مش حلم."

قبل أن يجيب، لمحَت والدها من بعيد، فابتسمت وخرجت، تاركة الكلمات تتردد في الشقة مثل صدى جرس لم يسمعه من قبل.

تلك الليلة لم ينم.

جلس أمام اللوحة التي سمّتها “خطًا قصيرًا”. حاول رسم خط جديد—طويل، ثابت—لكن يده ارتعشت. سقطت الفرشاة.

شعر لأول مرة أنه ليس عبقريًا.. بل رجل يختبئ وراء مزاعم الفن.

في المرآة قرب الباب لم يرَ وجه فنان؛ رأى رجلًا خائفًا من الحقيقة.

في الصباح طرق صاحب البيت. للمرة الأولى لم يتظاهر بالثقة.

قال ببساطة:

"اديني أسبوع.. وهدفع."

خرج يبحث عن عمل.

الأول رفضه، الثاني وعده، الثالث أخذ بياناته بلا اهتمام.

عاد مرهقًا… لكنه شعر أنه يتحرك أخيرًا.

وعند باب شقته وجد ورقة صغيرة بخط الفتاة:

"مافيش فنان بيتولد كامل.

في واحد بيتعب.. وواحد بيستنى.

لو محتاج شغل، المحل عندنا محتاج حد يغسل أطباق.

واللي يغسل صحن.. يقدر يرسم خط."

تجمدت الورقة في يده. جرحت ثم رمّمت شيئًا مكسورًا داخله.

في اليوم التالي وقف أمام باب المحل. رآها خلف الكاونتر، مريلتها ملطخة ببقع صلصة ووجهها مرهق لكنه حي.

سألته بابتسامة:

"جاهز؟"

فتح فمه ليقولها.. ثم تراجع.

أكثر كلمة قالها في حياته دون أن يفعل شيئًا كانت: “جاهز”.

فقال بصوت جديد، صادق للمرة الأولى:

"لأ.. بس هبدأ."

ابتسمت.. ابتسامة لم تكن ترحيبًا بل شهادة ميلاد.

دخل المطبخ ووقف أمام الحوض.

فتح الماء.. وبدأ يغسل أول طبق في حياته.

ولأول مرة، شعر أنه يرسم خطًا—خطًا حقيقيًا يبدأ من يده وينتهي في قلبه.

كانت تلك لحظة الميلاد الكامل.


طارق الحلوانى 

ديسمبر ٢.٢٥

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .

أنا وضياء خيالي بقلم الراقية عبير ال عبد الله

 أنا وضياء خيالي كنتُ أقفُ عند نافذتي كلَّ مساء، كطفلةٍ تنتظرُ لعبةً نسيَتها السماء على عتبة الغيم. أحدّقُ في الطريق، وأتخيّلُ ظلَّه يقترب… ...