بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 15 ديسمبر 2025

نادي الأحرار بقلم الراقي طارق الحلواني

 نادي الأحرار ق.ق

▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎

قبل امتحانات الثانوية العامة بأيام، يتوزّع الطلبة على مدارس لا يعرفونها، كأن الدولة تخشى أن يتجمّعوا أكثر مما ينبغي، فتُكسِر العدد.. وتُحكِم السيطرة.

جاء توزيع نجلي الأصغر، يوسف، بمدرسة العدالة بالعمرانية – محافظة الجيزة.سألني بهدوءٍ قَلِق: – تعرف مكانها يا بابا؟

قلت: – لأ.

سأل أمه، هزّت رأسها بالنفي.

دخل يوسف على الإنترنت وقرأ بصوت مسموع: – قريبة من شارع المحطة.. جنب نادي الأحرار.

توقّفت الكلمة في أذني.

نادي الأحرار.

ابتسمت دون أن أشعر.

مدرسة العدالة.. بجوار نادي الأحرار.. يا لها من مصادفة لا تخطئها السخرية.

هذه المنطقة..عاش فيها محمود السعدني.وكتب ضحكه الموجوع.

ومشى “الولد الشقي” صغيرًا، ثم كبيرًا، ثم مسجونًا، ثم منفيًا، ثم عاد يحمل الضحكة نفسها.. والجرح نفسه.

كنت قد أهديت يوسف الطريق إلى زمش من قبل، وقرأه على استحياء. لكن السعدني لا يُقرأ..السعدني يُعاش.

في أول يوم امتحان، أصررت أن أذهب مع يوسف.ليس لأن الطريق صعب،بل لأن القلق يحتاج كتفًا.. أكثر مما يحتاج خريطة. من ميدان الجيزة بدأنا السير.صوت القطار داخل المحطة كان يقطع الهواء، كأنه ينادي على زمنٍ آخر.باعة الجرائد يصرخون بعناوين بلا تأثير.محل فول وطعمية قديم، زيته يحفظ أسرار الصباح منذ عشرات السنين.قهوة ضيقة، كراسيها خشب متآكل، لكنها كانت يومًا ما ملجأ لفنانين وكتّاب وصحفيين، كان شغلهم الشاغل السياسة.. ويصنعون الأمل في الوقت ذاته.قلت ليوسف: – السعدني كان بيقعد هنا.ضحك وقال: – تخيّله معانا.. هيقول إيه؟لم أجب. لكن السعدني أجاب في رأسي.تذكّرت حكايته في سجن الواحات، حين كان السجناء يخرجون لتكسير الحجارة، وتركه الصول عبد المسيح في العنبر ليسلّيه.

قال له الصول: – ابني خد الابتدائية.. أعمل إيه؟ قال السعدني: – ولا حاجة.. دخّله الإعدادية.

– وبعدين؟

– ثانوي… جامعة.

– وبعدين؟

– يبقى مثقف.

– وبعدين؟

ابتسم السعدني وقال: – ييجي معانا هنا.قالها.. وجرى.وجرى عبدالمسيح خلفه يهدده، والضحك يسبقهم في صحراء السجن. ابتسمنا.. وواصلنا السير.الشارع يعرف نفسه. يعرف من مرّ به،ومن خانوه،ومن ضحكوا فيه رغم الخوف.

- حكيت ليوسف عن زكريا الحجاوي ، الذي جمع الفن الشعبي بالثورة ،والأغنية بالموقف ،والقهوة بالوطن.قلت له إن الحرية لم تكن شعارًا، كانت قعدة،وضحكة، واختلافًا مسموحًا. اقتربنا.شارع ضيق. مدرسة العدالة ظهرت. توقّفنا. رفعت عيني باحثًا عن اللافتة التي حلمت بها طوال الطريق. توقّعت بابًا عتيقًا،صورة شهداء،صدى هتاف قديم.لكنني وجدت.. قهوة بلدي.طاولات متّسخة.شيشة تتنقل من يدٍ إلى يد. ضحكات عالية لا تنتظر سببًا. عيون تراقب الوقت.. لا الامتحان. وعلى الحائط، لافتة معلّقة بخجل: نادي الأحرار. نظرت إلى يوسف.نظر إليّ.وانفجرنا ضحكًا.ضحكًا لا يعرف هل يعتذرأم يصرخ.

ضحكًا يشبه الجري

في صحراء الواحات.

ضحك السعدني نفسه

لو كان واقفًا معنا.

دخل يوسف المدرسة.

بقيت واقفًا لحظة.

أسمع صوت القطار من بعيد.أراقب دخان الشيشة يصعد ببطء.

وباب المدرسة.. يُغلق.

ابتسمت.

خِفت.

ومشيت.


طارق الحلوانى 

ديسمبر ٢.٢٥

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .

ساد الصمت بقلم الراقية حنان عبد الله

 سادَ الصمتُ بين الجموعِ حين أبصروني، قالوا: كيف جئتِ؟ وكيف عدتِ؟ ولماذا أتيتِ؟ قالوا وقد ظنّوا النهاياتِ ملكَ أيديهم: لقد دفنّا الشغفَ في ق...