«ميلاد الطريق»
قصيدة للشاعر والمهندس طاهر عرابي
دريسدن – كُتبت في 15.11.2023 | نُقِّحت في 10.12.2025
نولد أحيانًا في مكانٍ لا طريق فيه، لا شجرة تسند الظلال، ولا سماء تسند غيمًا نزعتها الريح من السماء.
من الغربة، من المخيم، من العبث،
يبدأ البحث… لا عن الطريق، بل عن القدرة على صناعته.
هذه القصيدة ليست تأريخًا لضياع، ولا بكاء على طفولة مرت بين وعاء العدس وطحين الشفقة،
بل تمرينٌ روحي على الخلق…
فيها الذباب لا يُطرد، بل يُصغى إليه.
وفيها الحبّ لا يطرق باب القلب، بل يرسمه.
إلى الذين يعبدون الطرق،
وهم يعرفون أن الطريق يبدأ من حجارتهم،
وأول الأقدام كانت اكتشافًا للأمل.
⸻
ميلاد الطريق
1
لم يكن لي طريقٌ لأمضي
كجدولٍ يسقي الضفاف،
ويفتّش عن ظلٍّ حنون.
تحركت في دائرة يهرب منها قوس القزح،
تمرّ عليها القطط وكأنها ترى بساطًا مثقوبًا،
وأشعر كأنني فأر بلا معنى.
بؤساءُ تلك الذبابات التي تبعتني
إلى فناءٍ موحش،
في غرفةٍ خالية،
حتى من ألوان الجدران،
حطّوا على الأرض وقالوا:
“أخرجْنا… لا شفقة لديك في وحدتك.
تبعناك، ونأمل أن نجد سكرًا على وجهك.
علّمنا كيف نلعق الملح،
وندور في فضاء يخشى على نفسه من الضياع.
متى سيتمّ التصالح بين الذباب والفرح
في هذه الغرفة؟”
ضحكت، ويدي على فمي خجولًا من الفقر:
سيداتي، التصالح معي ومع الفرح.
وأنا أتكرم عليكم،
لنبقى سعداء.
طيروا بلا حواجز وبلا هوية،
وهاتوا عشاءً حلوًا ملونًا،
فنحن نتساوى في اللوعة.
2
والمخيم متاهة،
دهاليز من صبر ينبت في كل جسد،
وانتظار يشبه لَوْعة الشؤوم.
من أين ينبع طعام الغرباء للسعادة؟
عودوا… للصبر مثلي،
فالصبر هو حصاد الدنيا
في بستانها الأخير.
تنهد الذباب:
إلى ماذا تنظر؟
أرضٌ غبراء،
سماء بالكاد تضيء،
فضاءٌ للطيور العابرة،
وغبارٌ يتسلّى على الوجوه!
ما أصعب أن تولد في قافلةٍ لا تسير،
أو بين جدرانٍ حجريةٍ مثقلةٍ بالندوب،
وجراح نُسيت قبل الموت،
ونسيت حتى في ميلاد العصافير،
أغانينا كلها مخنوقة،
والزهورُ مخنوقةٌ في أكاليل الموتى.
لا تنادِ الحياة وأنت أسير قفصٍ من العبث،
فالعبث له وجوهٌ من جسد المكان المنخور.
لا تخرج مهزومًا إلى هواء أثقل من الحنين،
فيقتلك… كأنك ثلجٌ
لم يلمسه أحد.
خذ طريقًا لا يلتفت إلى الدوائر،
إياك أن تسحرك وهي تظل تدور بك وأنت مهزوم.
3
لأوّل مرة أحببتُ الذباب،
لقد ذكّرني كيف يموت الجناح
إن لم تكن هناك سماءٌ تحمله،
وكيف يلتفت إلى تحسس الوجه قبل أن يحلم بشيء.
كنتُ المغمورَ بحركاتٍ لا توقظ رغبة،
كعقارب ساعةٍ مجنونة،
والزمن وحده يمضي بلا طريق، وبلا هدف.
مجبولٌ بروايات العودة،
أقدّسها،
كي لا أغرق في كفر الوجود.
تعلّقتُ بآخر شعاعٍ نحو الحياة،
الأشعة لا تنكسر،
ولا تنحني للشفقة، تضيء حتى ولو لم تسأل عيوننا.
من يعبد الطرق،
هو من يصنع الطريق، ولا شيء آخر في رحلة الحياة.
فعبدتُ طريقي،
غرستُ فيه مصابيح تكفي لنهارٍ قادم،
ولليلٍ يكره الظلام،
ولعُمرٍ يحياه الإنسان وكأنه ثابتٌ في المكان.
امضِ،
فالعمر لا يلتفت،
ولا تكن وحدك،
ولو كان الطريق من ذهب.
خذ معك نفسك،
فالحياة بحرٌ لا يعرف الهزيمة،
ولا أشرعةً مهترئة،
ولا صياحَ قبطانٍ ظنّ نفسه أخًا للعاصفة.
4
حملتُ عنقودَ عنب،
وصنعتُ شرابًا بلون التفاح.
غويتُ الحياة لتفرح بي.
وغنيتُ:
في الحبّ ألفُ طريق،
معلّقةٌ على الغايات.
وصرتُ أحبّ،
حتى غروبِ الشمس،
وأغرقُ عاشقًا في شموع الليل.
الطريق لا يغفل عن سالكه،
ولا يسلكه إلا من عرف الهدف.
لولاك، يا حبّ،
ما نجح عقلٌ في الخروج من ذاته،
ولولاك،
ما صارت الفكرةُ مساحةً للشوق نحو الحياة.
فوجدتُ نفسي أسيرًا،
أترنّح في مشيتي نحو العودة،
وكأن الطريق قد تفرّع وانحنى،
أمرّ وأشقى من أوتاد المخيم،
وأشدّ وطأةً من ذاكرة الخيمة.
قال الذباب مبتسمًا:
تعال…
نحن سنحلق عاليًا،
وأنت تحلّق أبعد منّا،
فقد وصلت إلى الطريق الذي وُلِد من إصرارك على معنى الحياة.
دريسدن – طاهر عرابي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .