"عبث الملوك"
قصة قصيرة بروح فكاهية ساخرة
بقلم: الشاعر والمهندس طاهر عرابي
(دريسدن — كُتبت عام 2021 ونُقّحت في 12.12.2025)
كان وزير المالية يتسكّع في أروقة القصر بلا هدف، وابتسامة راضية تعلو وجهه كأنه رسا أخيرًا على مرفأ الأمان. كان يشيخ في نعيم وظيفته، واثقًا أن حتى الشيطان نفسه لا يستطيع أن يعكّر صفوه هذا الصباح.
لمحه الملك، فدعاه بصوت يحمل نبرة اختبارٍ مبطّنة:
“أراك بلا عمل، وتمشي كأنك في بهجة فريدة… وهذا ما يعجبني فيك يا وزير.
اذهب إلى المطبخ، وأحضر لي منخل طحين فارغًا، وعدْ مسرعًا، وبنفس البهجة… إن استطعت ضبط نفسك وجعل أفكارك في منتهى الذكاء.”
مضى الوزير مستغربًا، وعاد بالمنخل. ملامحه تغيّرت بين دهشة وخوف، وظلّ السؤال يخدش تفكيره:
هل ثمة سرّ كبير في هذا الطلب السخيف؟
ابتسم الملك وقال بثقة:
“اذهب إلى البئر في الحديقة، واملأ المنخل ماءً، وارجع بسرعة.”
ضحك الوزير بخفوت وسأل:
“هل سيكون الماء للشرب، أم لسقي الزهور؟”
تفاجأ الملك بسؤاله، ونظر إلى الملكة كمن يبحث عن شاهد على ذكائه:
“سأقرر بعد أن تحضر الماء بالمنخل.”
قال الوزير بصوت رزين لا يخلو من جرأة محسوبة:
“الماء النافع لا يُنقَل إلا في إناء يليق بجلالتك، والمنخل ليس إناءً.
هو للطحين والحبوب… لا لماء الملك.
ولو كانت الأواني كلها مناخل، لكان البئر نفسه منخلًا، ولما وجدنا فيه قطرة ماء.
فكيف آتيك بالماء من بئرٍ هو — افتراضًا — منخل؟”
اشتعل غضب الملك:
“ومن قال لك إن البئر منخل؟ لقد أخرجوا منه ماءً قبل قليل!”
أجاب الوزير مبتسمًا بثقة:
“رأيتُ الساقي يحمل دلاءً… لا مناخِل.
ولو أعطيته منخلًا لما أخرج قطرة. دع الساقي يجرب، لئلا نتعلّق بالأوهام.
ليس هربًا من أمرك يا جلالة الملك، لكن كما تعلم… أنا وزير المالية، والفطنة عندي ضرورة.
تصوّر لو قلت لك إن الشيطان حوّل ذهب المملكة كله إلى تنك!”
سكت الملك طويلًا، محاصرًا بنظرة الملكة، ثم قال بارتباك مصطنع:
“نعم… أريد أن أشرب من منخل.
وأمرك أن تترك الساقي وشأنه… وإياك أن تعبث بممتلكاتي!”
هنا تدخّلت الملكة بذكاء رشيق:
“الأفضل أن نذهب إلى البئر ونسأله نحن: هل هو منخل؟ أم إناء صخري كريم؟
إن كان منخلًا فلن نجد فيه ماء، وإن كان إناءً… شربنا وعدنا إلى السكينة.
أعذراني… أراكما تتبارَيان في ردم المستحيل.”
ثم التفتت إلى الملك وقالت بابتسامة فائقة المعنى:
“هل أعجبتك أفكاري… وخاصة ما يتعلّق بالمستحيل؟”
ارتبك الملك وقال:
“نعم… رائعة يا عزيزتي. لقد كنت فقط أمازح الوزير.”
فانتهز الوزير الفرصة ونجا بثوب النجاة، وهمس لنفسه:
“الأفضل أن أكون دائمًا بوجود الملكة… فالصدفة اليوم كانت مدرسة.
والتسكّع بوجهٍ بهيج لا يليق بكل زمان ومكان، أمّا الشيطان… فلا يردعه إلا الحكمة.”
ما إن خطا خطواتٍ مبتعدًا، حتى سمع صوت الملكة يوقفه.
اقترب منها، وهمست بقرب وجهه همسًا يحمل حدّ السيف:
“لقد أنقذتك من السجن بعد أن كنتَ وقحًا مع جلالته.
وإن نسيت أذكّرك بما قلتَه:
‘رأيتُ الساقي يحمل دلاءً… لا مناخِل. ولو أعطيته منخلًا لما أخرج قطرة. دع الساقي يجرب، لئلا نتعلّق بالأوهام.’
هذه الكلمات كادت أن تطيح برأسك.
لا أريد شكرًا… من أبله، بل أريد أن أوكّل إليك مهمة بسيطة:
اذهب إلى جبال الهملايا، واصعد حتى قمة إفرست. وهناك ستجد كهفًا صخريًا بداخله راهب بوذي، لديه عطر الجمال الأبدي.
أحضر لي زجاجة منه… وارجع.”
ارتجف الوزير وقال بصوت مخنوق:
“هذا… هذا من المستحيل. بردٌ قارص، وهواء يقتل، وانزلاقات صخرية…
ومن أخبرك أن بوذيًّا قد فقد عقله ليعيش هناك؟
هل تشاورتِ مع الملك؟ الرحلة تستغرق سنة… وأنا وزيره الوحيد!”
رفعت صوتها فجأة:
“سأصرخ الآن… وسيقتلك الحراس.
اذهب. وجلب العطر.”
خرج الوزير مهمومًا، وكأن ثيابه الوزارية سقطت عنه قبل أن يخلعها.
عاد إلى بيته، وبدّل ملابسه كمتسوّل، وكتب على الباب:
“أنا في رحلة طويلة جدًّا بطلب من جلالة الملكة… ومن المستحيل أن أعود.”
دار في الأحياء، ولم يفتقده أحد في القصر، وكأن وجوده كان منخلًا آخر.
وكان كلما مرّ قرب بيته، قرأ ما كتب… وقال في نفسه:
“ليتهم لم يضعوا منخلًا في مطبخ الملك… فكل عبثهم بدأ من ثقبٍ صغير.
وليت البئر كان منخلًا… ولكن من المستحيل أن تفكر وأنت عبد،
ومن المستحيل أن يفهموك.
فلا عبقرية تقف أمام عبث الملوك.”
ذات يوم، لمح وجه امرأة يقف خلف نافذة إحدى غرف بيته.
اقترب ببطء، وقلبه يخفق: كانت الملكة نفسها، بابتسامة خفية، تلوّح له بزجاجة العطر وتقول:
“خذ هذه الزجاجة وقل إنك جلبتها من قمة إفرست… العطر الأبدي من الناسك الهندي.
أعطني إياها في حضرة الملك، لأكسب رهاني معه، فقد قال إنك لن تعود.”
ارتجف الوزير للحظة، ثم ابتسم بمرارة وقال:
“سيدتي… لقد اعتدت التسوّل… عبثي أنا، ولن أعود.”
وابتعد وهو يشعر بأن اللعبة لم تنته بعد، وأن عبث الملوك لا يعرف حدودًا، وأن الحكمة أحيانًا لا تجد مكانًا سوى في قلب من يغادر إلى قدره.
— طاهر عرابي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .