محاكمة الغياب أمام الحضور
على منصّةِ الغيابِ وقفتُ،
لا أحملُ قلبي وثيقةً فحسب،
بل نافذةً انكسرتْ في يدي،
تشهد أنّني رأيتُ ما يكفي
لأعلنَ أنّ الحضورَ هو القاضي،
وأنّ الغيابَ متّهمٌ
يُخفي وجهَه بين الظلال.
ناديتُ الذكرياتِ لتشهد،
فقالت بصدقٍ لا يلين:
نحنُ خرائطُ طريقٍ لم يكتمل،
نرسمُ له الدربَ…
ثم يبتلعُنا في منتصفِ المسافة.
وجاءت الدموعُ لا ككاهنة،
بل كصوتٍ بسيطٍ
يقول الحقيقة بلا زينة:
الغيابُ لا يجرحُ…
بل ينتزعُ جزءًا من القلب
ويتركُ مكانه هواءً باردًا.
كتبتُ على جدارِ الليل:
الحبُّ لا يُدان،
ولا يدخلُ قاعةَ المحاكم،
فهو الحكمُ والشاهدُ والمتَّهم،
وكلّما حاولتُ أن أُحاكمه
أضاءني؛ كمن يضيء الحفرةَ
التي سقطتُ فيها.
فتحتُ قفصَ الغيابِ عن حرفي،
فلم يطرْ فقط،
بل عاد إليّ مضيئًا،
كأنّما اكتشفَ سماءً أخرى
لا تُرى إلّا حين نخسرُ شيئًا.
وزرعتُ روحي — لا اسمي —
في أرضٍ صامتة،
فلم تُزهر وردًا،
بل أخرجت أثرًا يشبهني،
وخطوةً كنت أبحث عنها
منذ غاب الطريق.
وعند بوّابةِ الفجرِ علّقتُ آخرَ ما تبقّى من نبضي،
فمرّت الطيورُ تقرؤه،
ثم نظرتْ إليّ بدهشةٍ
كما لو أنّها تقول:
هذا الحكمُ لا يُكتَب… بل يُعاش.
وحين ناديتُ الغيابَ ليقولَ كلمته،
لم يهرب،
بل تقدّم صامتًا
ووضع يده على كتفي،
وقال بصوتٍ يشبهُ الريح:
"أنا لستُ خصمك…
أنا المسافةُ التي يجب أن تعبرها
لتعرفَ قدرَ الحضور."
فالتفتُّ إلى نفسي،
وعرفتُ أنّ القلبَ هو القاضي الأعلى،
وأنّ الحبّ ليس جناحًا فقط،
بل البابُ الذي لا يُفتح
إلّا حين يُغلَق كلُّ بابٍ سواه.
بقلم د أحمد عبدالمالك أحمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .