الحرية والقفص
ما الحريةُ إن لم تُوجِع القلب؟
وما السجنُ إن لم يُؤنِس الروح؟
فالوجعُ أحيانًا مقياسُ الحياة،
والأنسُ في القيودِ شكلٌ آخر من الطمأنينة.
بين جناحٍ يخشى المدى،
وقلبٍ يحنّ إلى قضبانه،
تتشابك الأسئلة…
وتولد الحكاية،
كأنها حكايةُ الإنسانِ منذ الأزل،
يتأرجح بين الخوف والرغبة، بين الأمان والمجهول.
كلّما فتحتُ باب الحلم،
أدركتُ أن الحرية قد تتحوّل إلى قيد،
وأن القيد أحيانًا
أرحمُ من فضاءٍ بلا حدود،
فما أصعب أن تملك الأفق ولا تعرف وجهتك!
وعلى أعتاب الأبواب المفتوحة
كنتُ أقفُ حائرة:
هل الحريةُ خلاصٌ حقًا،
أم وهمٌ يتزيّنُ بثوب السماء؟
كم من نورٍ خدّاعٍ غشينا ببريقه،
وكم من قيدٍ دافئٍ أخفى في صمته حنانًا خفيًّا.
كم من قلبٍ امتلك جناحين،
لكنّه ارتجف من أول رفّة.
وكم من روحٍ تاقت إلى الفضاء،
ثم عادت تستظلّ بجدارٍ ضيّق،
يسمّيه الجميع قفصًا،
وأسمّيه أنا… مأوى،
لأن المأوى ليس ضيقًا، بل مألوفًا…
وفي الألفةِ أحيانًا سلامٌ لا يمنحه اتساعُ السماء.
اليوم فتحتُ القفص،
وأطلقتُ عَصْفوري إلى الفضاء.
كنتُ أظنّه سيشقُّ الغيم،
ويغني للرياح،
ويترك ظلّي خلفه…
لكنّه ظلّ يرفرف حولي،
يعود إلى قضبانه
كطفلٍ خائفٍ من اتساع الطرق،
كأنّه يقول:
"هذا القفصُ وطنٌ،
فلا تخدعك الأبوابُ المفتوحة."
وكأنّ صوته مرآةُ قلبي،
يذكّرني بأنّ الأوطان لا تُقاسُ بالمساحة، بل بالسكينة.
حينها شعرتُ أنّني أنا هو،
وهو أنا.
كلاهما يحيا بذكرى الحرية،
لكنّه يتشبّث بسجنه
خشيةَ الضياع،
فالضياعُ أقسى من كل قيدٍ نعرفه.
أيُّ حريةٍ هذه،
تتدلّى كنجمةٍ بعيدة،
كلّما اقتربتُ منها
اتّسعت بيني وبينها المسافة؟
ربّما خُلقتْ النجومُ لتُرينا الطريق لا لنسكنها،
وربّما الحريةُ حلمٌ يكبر حين نطارده.
أيُّ حريةٍ هذه
تُثقل جناحي،
وتجعلني أحنّ إلى قيودي
كما يحنّ الغريبُ
إلى بيتٍ صغيرٍ مهجور؟
فالروحُ تشتاقُ لما اعتادته،
ولو كان حزنًا يسكنُ الزوايا.
جلستُ أراقبُ عصفوري،
والريحُ تلاعبُ جناحيه،
لكنه يلتصق بجدار الحديد،
وكأنّ الأفق غريبٌ عنه،
وكأنّ الفضاء ليس له.
وربما لم يتعلّم بعد أن الحرية تحتاج قلبًا يؤمنُ بها قبل جناحين.
قلتُ في سرّي:
كم يشبهني!
أحلمُ بالانطلاق،
لكنني أرتجفُ من أول خطوة.
أبني قصورًا في الخيال،
ثم أهربُ من بابها المفتوح،
كأنني أخافُ من الضوء أكثر من الظلام.
أصبحتُ أرى الحرية قيدًا،
قيدًا لا يُرى…
يحيطُ بي حيثما اتجهت.
وأصبح السجنُ حلمًا،
حلمًا فيه مألوفُ الأشياء:
ماءٌ في إناءٍ قديم،
ظلٌّ لا يغادرني،
وأرضٌ أعرفُ ملامحها،
كأنها تعرِفُ نبضي قبل أن أخطو.
هل أنا أسيرُ وهمي؟
أم أنّ العصفورَ يعلّمني
أن الحرية ليست فضاءً واسعًا،
بل بيتًا نؤمنُ أنّه يأوينا؟
فما نفع الأجنحة إن لم تجد مأمنًا تهبط إليه؟
يا أيّها الطائرُ الصغير،
علّمتني أن الإنسان لا يُقاسُ بجناحيه،
بل بما يثق به قلبه.
فالقلبُ حين يخاف،
يُغلقُ كلَّ نوافذ السماء.
قد نفتحُ ألف باب،
لكننا نعودُ إلى أوّل جدار.
قد نرتجي ضوء الشمس،
لكننا نتلحّفُ بظلّ السجن،
لأنّ الظلَّ يعرفنا أكثر من الضوء الغريب.
وأنا…
بين الحرية التي تخيفني،
والسجن الذي يطمئنني،
أمشي على خيطٍ رفيعٍ
يشبه غناءك المرتعش.
أمشي وأقول:
لعلّي يومًا أملكُ الشجاعة لأطير،
أو أملكُ الرضا
لأعشقَ قفصي،
ففي الرضا تنبتُ الأجنحة من جديد،
وفي الحبّ حتى القفصُ يصبحُ سماء.
بقلمي عبير ال عبد الله 🇮🇶