"هوس الإنكار"
قصيدة للشاعر والمهندس طاهر عرابي
دريسدن – كُتبت في 08.05.2023 | نُقّحت في 28.10.2025
بين الحقيقة والإنكار، وبين الإدراك والتغافل،
تتأرجح النفس البشرية في فراغٍ اختارته بنفسها.
نبصر، ثم نُغمض أعيننا عن عمد.
نتكلم كثيرًا، لا لِنفهم، بل لنُخفي صمتنا الأعمق.
هذه القصيدة غوصٌ في عتمة الإدراك الجماعي،
في دوامةٍ تتكرر بلا مخرج،
إلا بالاعتراف — أو الفناء في الوهم.
لم أرَ شكوى تشبه شكوانا،
ولا حلمًا يطارده النظام المجتمعي كما تُطاردنا الخيبة.
نحن أبناء قرونٍ غابرة،
نظن أنفسنا في الصفوف الأولى،
لكننا ما زلنا نقيم على عتبة الألفية الأولى،
نُجيد الدور القديم، وننسى المسرح الحديث.
⸻
هوسُ الإنكار
نحن مسكونون بهوس الإنكار،
وصمتُ الغافلين عن ظلال المدى،
كأننا لن نصله.
نعيش كأننا شجرة منسية،
ذَرَتها الريح عن أرضٍ مجدبة،
ونسيت أن تعرّف نفسها على المطر.
لم نمُت من شُحّ المطر،
بل نموت بلا ثمر.
ما أوهى جذورنا حين نخشاها،
نُخفيها عن الضوء،
ونغرق في متاهاتٍ من صُنع أيدينا.
نرسم ظلالًا لنختبئ فيها،
ونبتسم كأننا نملك شجرة،
ولم نسأل:
هل لنا غصنٌ يصلح لعُشّ عصفور؟
نتعجّل السخرية،
وننسى أن القمحَ يَدين للعصافير بترنيمتها،
يتراقص ويستوي في أرائك سنابله،
وأن الرغيف الموشّى بالزعتر
صُنع من شوق العطاء،
لا من صدفة الجوع.
نأكله كأنه هبةٌ من الغيب،
ونُنكر أن في الهواء رحمةً تمنح الدم لونه،
وأن الخبز مطرُ الشعوب يحييها في طلب الحياة.
نعمي أعيننا عمّا تتعثّر فيه خُطانا،
نهوي بخفّة إلى حوافّ البئر،
نُراوغ الوحل… ثم نُعانقه،
نغوص في إنكارنا حتى العمى،
ونتجاهل من أحبّ،
من غفر خيبتنا خوفًا،
ومن قهرنا علنًا،
وأسكتنا أسفًا.
في زحمة الرحيل… من نحن؟
في مدنٍ يحكمها السماسرة واللصوص،
نتلذذ بأدوارٍ لم تُكتب لنا،
ونصغي لمديح العدوّ،
لأننا نهوى التصفيق — ونحن منكسرون.
وما طالت رحلة،
إلا واحتملناها بوجوهٍ غريبة.
نزعم الملكَ على الخلق،
ولا نراهم.
نُقيم عرشًا من ثيابٍ مستعملة،
ونحتمي بفصاحةٍ خاوية،
في زمنٍ هجَر فيه الفهمُ معناه.
نُبدع الجهل،
نصفّق للملل بين شروقٍ وغروب،
ندعو الوجوهَ للنُعاس،
ونقول لليل: حلّق في عيوننا قبل السماء!
ثم نزعم الوصول،
ونحن لم نخطُ خطوة،
نسبح كسمكٍ لا يدرك الماء.
لا نخسر كثيرًا حين نفقد الوفاء،
نُراقب غرابًا يتكئ على قشّة،
نضحك… ونحصي الحصى الذي يذرّه،
كم نشبهه في لامبالاته!
ننسى الورود،
حتى لو وقفنا في حدائقها،
ونصبر على الضجر،
كأنه طقسُ انتماء.
لكننا مهووسون بالإنكار،
نُجيد أن نكون لا شيء،
كطحالبَ معلّقةٍ على جدران المعنى.
الواقع انسكب قصيدةً بلا قافية،
واشتعلت حربُ الفهم،
والحياة تمرّ من شقّين: بابٍ وشبّاك.
كم مرةً بكينا الحظَّ،
قاتلنا الريح،
ثم وقفنا كمن يطرق بابًا
لا يسمعه أحد.
وما زلنا…
مهووسين بالإنكار،
حتى يبتلعنا صمتٌ
ليس صمتنا،
بل صمتُ الغافلين.
كاد الوطن أن يغدو صفيحةَ مؤامرةٍ،
منا… ومنهم… ومعهم.
نرحل في عتمة الضمير،
ونرشق من تبقّى
بجرحٍ محيّرِ الشفاء.
كأن الأرض لم تعد تصلح للسكن،
إنها محاصَرةٌ بالبغضاء،
وقد فقدت وهجَ الفصول الأربعة.
لكنّ تحت رمادها
تتململُ بذرةٌ لم تُعلَن بعد،
تبحث عن شقٍّ في الصخر،
وعن قطرة ضوءٍ تنجو بها من النسيان.
ربما كان الإنكارُ حيلةَ البقاء،
وربما هو الدليل الأخير على أننا ما زلنا نحلم،
وأنَّ بين العتمة والعجز،
ومضةً صغيرة
تُسمَّى: الاعتراف بالحياة.
ربما كان الإنكارُ حيلةَ البقاء،
وربما هو الدليل الأخير على أننا ما زل
نا نحلم،
وأنَّ بين العتمة والعجز،
ومضةً صغيرة
تُسمَّى: الاعترافَ بالحياة؛
وهو الانتماءُ الذي لا ينكره سوى السراب.
طاهر عرابي – دريسدن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .