“بين سين ونين”
قصيدة سردية للشاعر والمهندس طاهر عرابي
دريسدن – كُتبت في 13.06.2020 | نُقّحت في 30.10.2025
في عالمٍ يتلاشى فيه الوقت، وتتبدّل فيه الأحلام،
يبحث الإنسان عن الزمان والمكان المناسبين ليعيد صياغة نفسه.
في المخيم، تتغيّر فلسفة الواقع، وتصير فلسفة الوجود — بالرغم من الوجود.
كان المخيم محطةَ العودة، يجمعنا أطفالًا،
فتناثرنا مثل بذور وردةٍ متمرّدة، نبحث عن أقرب مسافةٍ لربط الحلم.
“سين” و”نين” ليسا رمزين للزمن فحسب،
بل شجرتان في أرضٍ لا تعرف الثبات.
والزمنُ المناسب لتُحدّثَ نفسها عن مزايا الفصول،
يتأجّل حلمُ الاستقرار كلّ مرة… ويغيب.
هذا النص، وإن تنقّل بين السؤال والجواب،
يحمل عذاب الفقد، ومرارة الانتظار.
بين الظلال والذكريات، نبحث عن أجوبةٍ قد لا تأتي أبدًا.
قطعتْ سنينٌ، وصارت “سين” و”نين”.
لم نعِ “سين”، ونتعثّر بـ“نين”.
هذا هو حوارُ الزمان والمكان… إن وُجدوا في التشريد.
⸻
بين سين ونين
نعم، كلّ شيءٍ محكومٌ بدقّة اللوعة،
وصناعةِ موتِ الأخلاق.
في هذا العالم، لي أصدقاء:
سامرُ استيقظ من نومٍ هانئٍ في كندا،
وخليلُ يرتّب وسادته لينام في أستراليا.
ساعتي في المخيم تشير إلى وقت القهر،
وقد انتصف النصف الثاني من العمر،
وما زلتُ أنتظر… وأتسلّى.
سنعود، سنفرح، سنرى، وسنرفع…
سندافع عن…!
كلّ شيءٍ مُرتَّبٌ للعودة، وأمّي ستقود الخطوة الأولى.
ماتت “سين” السنين،
وصارت “نين” طرف الحبل الأخير.
ربطنا أعناقنا به، كي لا ينطفئ الضوء.
صرخت:
ارحمي قلوب التائهين، يا “نين”،
أريد أن أمسك بثوب أمّي ولو عند منعطف الباب.
وقولي للكفن: ابتعد، وعلى الموت أن يستحي،
ما زال خارج الوطن… كلّ الوطن.
فكيف تمرّ السنين؟
فلنكن متديّنين أو علمانيين،
لا شيء يُعَدّ،
إن كان الجسد والروح منفصلين،
والمشرّدون طقوسُ كآبةٍ
معلّقةٌ على أشرعة مراكب تزحف.
رنّ جرس الهاتف الرقيق،
صديقٌ يعمل في صناعة الماضي،
متأثّرٌ بالمعلّقات، ولا يعلم من يكون درويش.
قلت: أنا معك، أتواصل عبر الأثير.
ابقَ أنت على الغيمة، حتى لو أمطرت،
لا تنقهر.
القمر فوق سماء العرب،
وستتسرّب الضوضاء إلى صوتك،
ضوضاءٌ مفتعلة،
كي لا تفهم أني موجود في المخيم.
افهمني… أنت فقط، فلديّ ما أقوله منذ سنين.
أنا بريءٌ من الكراهية ومسبّبات العتب،
لكن، كما تعلم،
ليس لدينا خارطةٌ للأقمار، ولا لمسارات الأفكار.
أخشى، حتى لو خفّضت الصوت،
وتكلّمت بالحروف السرّية،
تتحلّل وتتخمّر وتُجزَّأ، حتى يصل المعنى إلى مؤامرة.
وإن حدث مكروهٌ من جملة المكاره،
سنتصرّف، وتتّصل أنت،
بعد انعطاف القمر الصناعي نحو اليمين،
وتراه يبتعد…
يبتعد…
كي لا يتجسّس علينا نجمٌ لئيمٌ من سلالة حاقدين.
إنهم يسجّلون حتى صمت الأصدقاء،
وهم مقهورون منّا، حتمًا.
نتكلّم من حول الأرض،
وكأن المخيم محطةُ إنذارٍ مبكر
في محيطٍ ظنّوه مغلقًا في وجه الأحلام.
هل أنت بخير؟
أردتُ الاطمئنان فقط، منذ “نين”، وأنا معلّقٌ بالأثير،
لكنني لم أقدر إلا على النسيان.
فنسيت “سين”، وتلحّفتُ بـ”نين”.
وقبل الاتصال،
كتبت كلماتي على ورقة.
أحبّ الحذر.
سقطت من جيبي، فمزّقها أفواهُ حمارٍ يحمل البصل.
وبعد شهرين من التفكير،
وشطبِ كلّ ما يثير،
قرّرت: الاطمئنان فقط.
منعوا الكلام، ومسموحٌ ذكر الماضي السحيق،
قبل موت فرعون غرقًا.
ابقَ سالمًا، يا أخي الحبيب.
ابقَ نشيطًا، رائعًا، وديعًا.
ولا تفكّر بالمقتول “سين”.
سلامي للجميع.
أتمنى سقوط القمر
قبل تسجيل مكالمتي
عند عدوٍّ مقتدر.
سيتحقّقون من وعيٍ أوّلًا، ويفشلون.
المشرّد محميٌّ من الأخلاق، وهم لا يعرفونها.
سأخبرك عن انتظاري في الوقت المناسب.
سأقول، كي لا يسجّلوا شيئًا
مغبّشًا أكثر منّي:
أنا عربيٌّ كاذب،
بطاقتي مزوّرة،
وصورتي لوجهٍ مستعارٍ شاحب.
لا تجبروني على البوح
بأيّ مكانٍ لا يزهر الورد.
فلم يعد فرقٌ بين المشرق والمغرب،
في زمنٍ يُحبّ فيه الهربُ الهربَ،
وكأنّ الأوطان تُوزَّع بقدر البكاء
على المصائب.
على سطوح بيوت المخيم تنبت الطحالب،
وعلى العتبات تبات “نين” بفمٍ فاغرٍ يمسك بالقدم.
نعم، أنا… كما تعلم، يا أخي،
وُلدتُ في صراع الطبقات،
وصراع النفط والحطب.
ففرحتْ أمّي وقالت:
هذا هو جيل الثورة، فلتحيا الولادات!
ثم ترعرعتُ في صراع الزعامات،
فصاروا يحملونني صورة قائد،
ويقعدونني في طوابير الإعانات،
وأمّي تبحث زاحفةً عن مكانٍ
لتدقّ وجهها بلطمات،
وتقول:
في المكان المناسب،
لم يسقط سوى صاروخٍ من الأعداء
على حلم العرب.
وفي الوقت المناسب،
صرنا نجوع، من أجل الجوع،
ليوم غدٍ نظنّه مكاسب.
هل تقوى على فعل شيء، يا ولد؟
شيءٌ يثير البهجة في غبارٍ عالقٍ بثيابي منذ النكبة؟
ألجأ إلى الصمت، كما تعوّدنا معًا.
لستُ من يقرّر الزمان،
ولستُ حرًّا في أيّ مكان.
ذهبت “سين” من سنين البدايات،
وبقيت “نين” لما تبقّى من رماد الأعمار.
إنّي أشعر بالخجل…
الزمان المناسب قد تأجّل،
والمكان؟
أن تكون لتبحث عن مكان.
أصرخ، منفعلًا من العتاب:
يا أمّي، امحي الزمان من الذاكرة.
هل أنتِ مسجّلةٌ في سطور أيّ شيء؟
هل لكِ شباكٌ وباب؟
لا تقهريني… ولا تقلقي، فأنا عاقل.
وأنتِ في المخيم سداسيّةُ الأبعاد،
وضربٌ من الأحقاد.
هل لديكِ زاد؟
وقليلٌ من طحين العيد؟
بكت أمّي، وشاحت بوجهها، وقالت:
ضعفاء؟
لم يصبح هذا الولد سوى ولد،
تعفّن حليب صدري في عروقه،
في هذا المكان، ومن أجل ذاك الزمان.
لن أبرّر لك قيدًا واحدًا، يا ألف قيد.
العودة نشيدٌ… فاحفظ دمك،
وارحم تاريخك لكونك مولودًا.
هل سنعود، يا ولد؟
قلت لها: سنعود، فلنسمع معًا صوت المذياع.
لدينا ثلاثٌ وعشرون محطة،
ولا أخبار مدهشة أكثر ممّا نسمع:
أشدّ ضجيجًا من انفجار صمتٍ قديم.
يتكلّمون حسب ما يشتهي الأعداء،
ونحن خارج البثّ.
سقط صاروخ، ولم ينجُ أحد،
وعرفنا المصدر:
الله أكبر.
سنردّ في الزمان المناسب،
فصاحب الدار يقرّر المكان.
عاش، عاش، صاحب الدار والخيار،
سيردّ على العدوان
حين لا يبقى مكان.
حكمته في الصبر،
كسنديانةٍ وقفت وحدها،
دون جذرٍ… ولا أغصان.
سمّوها “بلهاء الزمان”،
عشّشت فيها العناكب والفئران.
خلعت أمّي حذاءها،
وضربت وجه المذياع،
فسكت.
قالت: ضاع الزمان والمكان،
واختلط القهر بدمع العيون.
سجّل:
أنا عربيّة،
ورقم زماني ألف زمان،
ومكاني في فلسطين.
أمّا أنت،
فأنت حرٌّ بما تسجّل، يا ولد.
سجّل:
عربيٌّ مثلك مثل الهندي.
سجّل:
عربيٌّ مثلك مثل البلجيكي.
سجّل:
عربيٌّ مثل من ضاع ولم يصل.
زمان الضائع… ضائع،
ومكان المشرّد… رحيل.
سجّل، أرجوك سجّل،
إن كنت تشفق على الخجل.
لكن إيّاك أن ت
غفل:
أنت فلسطيني، فلا تبحث عن هويّة،
ولا تسجّل نفسك للهلاك.
والمكان… هو جسدك أنت.
فواصل… حتى تصل، وخذني معك.
هل تسمعني؟
انقطع الخطّ… منذ سنين.
أمسكتُ بما تبقّى لي من “نين”.
رحلت أمّي، وبقيت لي فلسطين.
طاهر عرابي – دريسدن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .