مرآة الخوف
في زمنٍ تتآكل فيه القيم، ويصبح الصمت عداءً داخليًا،
تنبثق هذه القصيدة كصرخة في وجه هشاشة الإنسان وخوفه المتجذر.
لا تبحث عن عطب خارجي، فهي تكشف الخيبة الكامنة فينا:
في صمتنا، في تواطؤنا، في مرآة الخوف التي نحملها دون أن نجرؤ على كسرها أو النظر إليها.
⸻
مرآة الخوف
قصيدة للشاعر والمهندس طاهر عرابي
دريسدن – 03.08.2024 | نُقّحت 28.09.2025
1
الشياطينُ يضجّون حول نارٍ
لا لهب لها… ولا دخان،
ينتحبون على فقدان الحطب وزيت الحوت،
يشتهون ضوءًا ليزحفوا نحونا بجوعٍ لا يشبع،
والآدميونَ يتعثرون بظلال شكِّهم،
يطلبون العبث لرؤية ما بعد العبث.
حتى صار اليقينُ يتلعثمُ على حافّة ضباب،
يسكب رذاذًا يغسل الوجوه،
فيدلّ على صفيحٍ مقعّرٍ ومحدّب،
يشي بوجهٍ مختبئٍ تحت سقف الصبر.
كلٌّ في مرآته… يلوذ من نفسه،
يتخبّط بجحيمٍ هو من يوقد حجارته،
أمام ساعةٍ لم تتغيّر منذ دوران الشمس.
الشمس تشارك المظلومين قضاء نهارهم: نصفه حيرة ونصفه أمل،
وتواسي السعداء بانتظار ليلهم.
والكل يبدّل موقعه لنهارٍ قادم.
لم نسمع أن شيطانًا وقف حزينًا على طرف الهاوية،
ولم نرَ شيطانًا يحدّق في الأفق ليتحرّى الأمل.
أيُّ وهمٍ رديء أن نُلقي فيهم خطايانا!
وندور حول زوبعةِ الفقد.
لم نرَ الشياطين يشعلون الحرائق،
ولا يسرقون جمرات التنّور،
لكنّنا نحترق… بلا تعليق، بلا خجل،
مرّوا من بين أصابعنا، وتحت رمش العيون،
سماسرةً محترفين في بيع التردّد والانكسار.
2
لم نسأل: كيف تكون النهاية بلا بداية؟
للشياطين بدايةٌ رأيناها في المرايا المثقوبة،
لكن هل لهم نهايةٌ عند شروق الشمس؟
يتحرّقون، يتحاربون، وأيديهم تلوّح بسيوفٍ من نارٍ وحجارة…
لا ندري.
والقهرُ بين الشكِّ واليقين يعلو حتى يختنقنا،
حتى ضلّت المجاملة طريقها بيننا،
وسقطت في هاوية بلا قرار.
نرجوها أن تصعد… أو ننزل إليها بلا عودة.
نُبارك أنفسنا بلعن الشيطان،
ونبحث عن شقوته،
نبتهج بموت أطرافه، أو بذيله المجدول من نسيج اللهب.
لكننا لسنا نحن،
لسنا مَن يعرفون الشيطان،
ولا كيف نُقصيه عن مراسم البهجة في ساعات الوفاق.
3
من يُسعف الفيل إذا هوى في حفرة؟
والأفيال تُعِدّ خليفةَ السير إلى نبعٍ لا يُدركه العطش،
أو إلى مراعي يغمرها الريحان وتفاحٌ أصفر.
الكلُّ يدفع بالخليفة، ويظنُّ القادمَ أروع،
لكن الحفر تبقى… لم نردمها،
نراقبها ونعدّها كأننا نحرس خرابنا،
ونرنوا ببلاهةٍ إلى أكوام التفاح الأصفر.
من هؤلاء المتخفّون خلف زجاجٍ أسود؟
يروننا ولا نراهم،
يحكمون ولا يُسألون،
لهم نفوذُ فرعون، وجداولُ من رفاهية الخلود،
ونحن… نبارك،
ولا يهمّ لونُ العسل، إن كان يشفي من داء اللوعة.
ونسقُطُ القيمَ كورقٍ خريفٍ مترنّحٍ في العتمة،
حتى يغدو كهفًا يأوي خرافاتنا،
وربّما يدلّنا في ظلمته على صدق الأخلاق في معادلة البقاء،
حتى لو تأخّر كل شيء، ووجدنا أنفسنا مُجبَرين على اكتشاف الأخلاق.
نألفُ البلاهة،
نبتلع الكذب كما يُبتلع الهواء المحلّى بالخديعة،
حتى يعرّينا بحرُ الظلال من كلِّ حماية،
فنقف عُراة… بلا دفء.
مثل عيدان زنبقةٍ أكلها الجفاف،
مثل أسماكٍ بحراشف حجريةٍ وفمٍ منزلق.
ندّعي أننا نلعق السكر لنضحك،
لكننا نلعق القهر،
ونسجن من يفضح الجبن فينا.
لا نريد ناصحًا… فالبكاء حاسّةُ الذنب،
والذنب علّقناه ليجف تحت الخوف.
4
نحابي الأقوياء،
لا لأننا نحبهم أو نحب القوة،
بل لأننا لا نحتمل كسر انحنائنا الطويل.
اعتدنا أن نكون زاويةً ترى الأرض ونصف السماء،
وتعبنا من البحث عن الفراغ في الكون
والألم في القلب… حين يسكنه الصفيح الأصم.
يا صيف الحصاد،
لم نزرع القمح…
كنا ننتظر غيمًا جديدًا يليق بقمحنا.
فكيف نأكل الخبز بطعم البهجة؟
نتعشّى الخوف،
ونظن أننا أسياد الحصاد!
سطور التاريخ تفيض بالخوف:
روما، بابل، مدائن رمسيس…
خوفهم منحهم الخلود.
أما نحن،
فخوفُنا هو من سيودّع الأرض بدلًا عنا،
ويقول شامتًا: “لقد كانوا… يوم أمس.”
صرنا أدوات لصناعة البؤساء،
وندّعي الحرية وسط العواء.
من يرى نصف الحقيقة يخون الأبرياء،
ويترك نصفه مجهول الهوية.
يا ليتنا ندرك: أن نكون أوفياء
هو المستحيل الجميل،
الذي نصنعه فقط حين ننبذ الجشع،
ونعشق روعة الاكتفاء.
5
فماذا بقي لنا؟
ذاكرة مثقوبة، وخطى تسير إلى الخلف
باسم الحداثة، والمرونة، ولذة الترف.
نحمل سيوفًا من خشب،
ونرفع رايات من دخان،
نحارب ظلّنا في المرايا،
ولا نجرؤ على فتح النوافذ،
خشية أن يدخل النور
ويكشف علينا رداء البؤس.
لسنا بحاجة لعدو، فالعدو ينام فينا:
في جشعنا، في كذبنا، في صمتنا الطويل
أمام مذبحة الوفاء.
لكن…
ربما ننجو،
إذا انفجر الصمت كزجاج محرّق،
ودخل النور بين شقوقنا،
فتتحول الكلمات إلى مرايا حارقة،
تكشفنا بلا أقنعة…
والخوف الذي حملناه هو الطريق إلى النجاة.
طاهر عرابي – دريسدن