معراج الصمت
احتساء القهوة هو عبورٌ هادئ نحو جوهر اللحظة وبحثٌ صامت عن معنى يتخفى في البخار المتصاعد من فنجانٍ أبيض صغيرٍ. إنه طقسٌ لا يليق به الضجيج ولا يحتمل السطحيّ من الحضور. فالقهوة ترتشف حين ينزل الليل على الأشياء كستارٍ خفيف، حين يغدو الزمن أكثر بطئًا، وأكثر استعدادًا للكشف، حين تُطفأ أصوات الخارج ليُصغى إلى الأصوات المنسية في الداخل.
لهذا فإن أولئك الذين يشربونها وسط الضوضاء لا يعرفونها. يمرّون بها كما يمرّ الغريبُ بأرضٍ لا ينتمي إليها، لا يستنشقون رائحتها كذكرى، ولا يتذوقون مرارتها كصدق ولا يُنصتون إلى صمتها. إنهم يسكبونها في أفواههم كما تُسكب الأخبار في المقاهي المستعجلة، بلا طقوس، بلا خشوع، بلا انتباه. وهكذا تمرّ القهوة من بينهم ولا تمسّهم، تُجاورهم ولا تدخل فيهم، تغدو مجرّد عادة لا أكثر .
أما لمن عرف سرّها فهي معراجٌ صامت، ومسافة يتقاطع فيها الوجود مع الحنين. لا تُشرب إلا في فسحة من العزلة، حين يكون القلب خفيفًا بما يكفي ليصغي، والعين صافية بما يكفي لترى ما لا يُقال. لا بد أن تُهيّأ لها الطقوس، تكريمًا لها و احترامًا لما تفتحه من أبواب داخلية، لمن تنقّيه من ثقل العابر، وتُعيده إلى ذاته.
بهذا تكون القهوة تجربة روحية، لغة يتكلّم بها الصمت وتوقيتًا نادرًا نكون فيه بكاملنا: بجسدٍ لا يستعجل وبذاكرةٍ لا تفرّ ووعيٍ لا يُشتت. إنها لحظة تتجاوز المتعة العابرة، لحظة تستحق أن نؤجل من أجلها العالم
شاكر الصالحي
تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .