"في البدء لم نكن"
هذه القصيدة ليست رحلة في الخيال، بل غوصٌ في عمق الأسئلة التي نخشى طرحها:
من أين بدأ النداء الكوني؟ ولماذا تبتلع الحروب صلواتنا؟
وكيف تحوّلت الفضيلة إلى مادة تُحقن في مختبرات الاستلاب؟
ليست تأمّلًا في الخليقة فقط، بل محاكمة شعرية للتاريخ، وللقيم.
أرى في المعادلات الكونية قصيدة لم تُفكّ شيفرتها بعد.
النص لا ينكر وجود الخالق، ولا يدخل في سياق الأديان،
بل يصرخ في وجه القهر، ويبحث عن الإنسان وسط ركام الزيف.
إنها نزهة… لا في السماء وحدها، بل في داخلنا،
نداء خافت لاستعادة المعنى،
قبل أن تُطفئ الشمس ثوبها الأخير.
⸻
في البدء لم نكن
(قصيدة للشاعر والمهندس طاهر عرابي)
دريسدن – 27.07.2024 | نُقّحت في 01.08.2025
كانت السماء سوداء،
أو لم تكن من أيّ لون نعرفه،
ونحبّه كما نختار لون ربطة العنق.
ظلٌّ خام، لم يخضع للتسمية،
ولم نعثر عليه حتى في أطراف قوس قزح.
كان الهواء غبارًا محترقًا،
يتلظّى في جوف الثقوب السوداء ذات العنق الشرس،
والضوء دخانًا كثيفًا،
ملغًى من جميع القناديل.
وكان مُكلفًا لنا أن نعلم،
لكنّنا سكتنا،
فالصمت أرحم من تحريف المجهول،
ولا إبداع في نفاقٍ مخزٍ… للكون هو المستحيل.
لم تكن السماء منحنية كما نراها،
لا كقبة، ولا ككرةٍ من ثلج،
بل كانت كيانًا بديعًا،
بلا يدٍ تلوّح، أو عينٍ بشرية تراقب.
ويوم وُلدت أول صدفة،
أو نُفخت الإرادة العظيمة في الفراغ،
كان الميلاد أعظم من كلّ ما نراه الآن،
ونحن لا نخشى حتى ما نراه،
رؤيتُنا تمتدّ للملذّات العابرة،
تتجاهل ما يجبرها على الفهم الصريح.
قالوا:
تشكلت الكواكب من بذرة كونية،
بحجم حبّة حمص،
لكنّها أثقل من كلّ المقاييس،
زرعت نفسها بنفسها،
بأمرٍ من الله،
الذي سبقها، ولا يليه شيءٌ بعده.
تدحرجت بقوّةٍ أولى
لم تُعرّف بعد في كتب الفيزياء،
ولا في حديث النسبيّة عن الذرّات؛
فلا كتلة، لا زمن، لا سرعة.
ولولا الإبداع السريّ لانْهار الهواء قبل أن يُخلق.
ثمّ اتجهت حبّة خجولة إلى ثقب
في مكانٍ يُدعى “البدء في الفراغ”،
نبتت، تمزّقت، تبعثرت،
ثمّ تكوّمت إلى مليار كوم،
تسابق نفسها بسرعة
لا تدركها أعين،
ولا تفسّرها العقول المصنوعة،
حتى من تراكم العقول في فنّ الفيزياء.
انتهى المخاض دون شاهد،
تمدّد الكون، واستوى العرش،
ولم نُولد من تفّاحةٍ ضخمة،
ولا من بركان،
بل تُركنا خارج الحساب،
تابعين للاشيء،
في نواةٍ تهاجر منذ مليارات السنين.
لم نكن في مسجد، أو كنيسة، أو معبد
يحتفي بقداسة الإنسان،
ولا زرعنا أشجارًا تمجّد الدعاء.
الكلام الصاعد إلى الله
عاد إلينا،
عالقًا في حناجر الخيبة،
ضائعًا بين زحمة الفضيلة.
ومتى كنّا صالحين؟
ما أصعب الإجابة ونحن لا ندري
كيف نتعامل مع اليقين!
متهمون بترك ما لا يُترك لنعيش.
المؤمنون يموتون جوعًا،
خلف أبواب شفّافة،
نراهم… ثم نغضّ الطرف،
لا لأننا نكرههم،
بل لأنّ وجوههم تفضح صمتنا.
ننتظر السماء أن تُنزل تفاحًا وعنبًا مجفّفًا،
وأنا… أعلنتُ صمتي،
خلعتُ ربطة العنق،
وصرتُ الأوّل في عُرف الشقاء،
وصونِ البقاء،
والأخيرِ في صفّ الضعفاء.
توقفتُ عن مناشدة الدم الذي يجري
في العروق
أن يبني سدًّا على مرأى الخيبة من فوق الجسد.
لم نكن مشاركين في المنتدى الكونيّ،
ولا في مسوّدة الحياة العفيفة.
وقبلنا بثانيةٍ وُلدت الأرض،
ثمّ القمر، ثمّ النجوم،
وفي الثانية التالية،
خرجنا من الخلق المقدّس،
معلّقين على حافّة “من نحن؟”
هطل المطر مليار سنة بلا تعب،
نصفه سقط،
ونصفه ظلّ معلّقًا بحبل الأسرار،
لا فيزياء تفسّره،
ولا جغرافيا توضّحه.
هل أمطرت فوق الأرض؟
أم بعد غرق المجرّات؟
سقط الحديد، ومعه غرامٌ من الذهب،
لنقتتل.
الكيمياء خافت أن تبدأ،
والفيزياء انتهت،
وتركت لنا مغناطيس الحياة
يجذبنا ولا نعقل.
والكلّ معلّق من الأعلى بلا شيء،
ومن الأسفل بلا شيء.
قداسة لا تُفكّ شيفرتها،
حتى لو زعمنا أنّنا
مسافرون بالتقوى نحو الفناء.
وأخيرًا، تجمّد الماء مليار سنة،
ثم ذاب فجأة،
حين وُلدت الحيتان،
وتنفّست الضفادع،
وقرّر الماء أن يملأ كلّ منخفض،
فصار محيطًا،
وصارت الأرض جزيرةً نائية…
كما نعرفها اليوم،
فيها كلّ ما نحتاجه لنختلف حول السعادة.
قال الشيخ، وقال القدّيس،
وتجادلا في النشأة:
أكانت سمكة؟
أم حواء من آدم بعد جمع الطين؟
أم داروين وقروده الذكيّة؟
كلّهم وُجدوا بعد الخلق،
وكانت ستّة أيام، حتى استوى العرش العظيم،
وفي السابع بعد المليار، صلّينا معًا،
وفي الثامن بعد المليار، بدأ الصيام،
وفي اليوم التاسع، بعد أربعة آلاف مليار سنة،
بدأنا الحرب.
وفي بقيّة الأيام،
تذكّرنا الستة الأولى،
حين بزغ أوّل صباحٍ على هذه الأرض.
هل جاء من الشرق؟
أم بقيت الشمس معلّقة؟
كلّ المجرّات رجَتْ الله شمسًا،
لكنّ فضله رسا علينا.
وأنكرنا كل معادلات الفطنه.
نحن واثقون أنّ الأرض
استقبلت الصباح برضى،
بلا حرب، ولا كذب،
ثم نبتت الكارثة،
حين اخترعنا القوّة،
والقهر، والتسلّط، والعنصرية، والظلم…
ما أصعب الظلم، أيتها السماء!
وهنا، نختلف:
هل هناك شيءٌ اسمه “قدر”؟
إلى متى يطول القدر عند المظلومين؟
المهم، أيها السادة،
أنّنا سنموت،
وندخل عالمًا
فيه أنهار، وأزهار،
وحوريّات
تُنسينا اليوم التاسع،
حين استلمنا الأرض عذراء وبدأنا عملية التزوير…
زورنا الكهف الأول، والمنعطف الأول،
والاتجاه صار منحنيًا…
كلّ ما لدينا مصطلحات بشريّة،
وأفعال بشريّة،
لا علاقة لها بالأيام الستة،
ولا بالانحباس الحراري،
بل بالنفي ذاته لما ينفينا أتقياء.
نتعبّد الآن
من أجل رؤية ثانية
تلك الأيام الستة…
ولم نكن هناك،
لأنّ العبقريّة غابت.
وإن غابت، نصلّي المغرب مع العشاء،
لنهنأ حتى الصباح.
وفي اليوم التاسع… بعد أربعة مليارات،
بدأ التعصّب،
وبدأت الفضيلة تُحقن في المختبرات،
لكنّها فشلت.
وجاءت الثورات، فكسرت المختبرات،
وبلعنا مسحوق الفضيلة… وسكتنا.
ولرحيق الراحلين غايةُ البقاء، أيها السادة:
لقد مات الجدُّ جائعًا… ونحن نعلم.
نعلّق الأخلاقَ على مشجبِ الغيب،
ونمضي في أعمارِنا
مسافةً
أقصرَ من عرضِ ذرّةِ غبار،
ونظنّ أننا نعلم شيئًا من هذا الكون!
في صباحٍ
كان بينَ النهايةِ والوداعِ لحظاتٌ،
رأيتُ أبي
يقضمُ أظافرَ أصابعه،
ويُحدِّقُ في سَجّادةِ الصلاة.
قال:
أبحرتُ العُمرَ…
ولم أَعُدْ حاملاً لا صدفًا
ولا سمكًا، والشاطئ كان بحر رمل.
ماذا أُورّثك؟
وطنًا مسلوبًا،
وكفاحًا متعثّرًا،
حتى صارَ حُلمُ العودةِ
يُدرَّسُ في مدارسِ الخيبة.
قُل لي…
متى وُلدتِ النصيحةُ
في وجهِ المقهورين؟
كم مرّةً
تراجعتُ خُطوتين
من أجلِ خُطوةٍ رائعة،
فوجدتُني أعودُ إلى قوقعتي.
صرختُ…
فتردَّد الصوتُ،
وذكّرني أنني
أمضي إلى الخلف، وأُتقنُ الدمعَة.
خذ طريقين… أو أكثر، فطريقٌ واحدٌ
قد يَهدرُ عمرك، والعودةُ فيه
كمن يحفرُ قبرَه.
وزّع خُطاك لتُنقذَ ما تبقّى
من روعةِ رؤياك للحياة.
الفضيلة، يا سادة، لا تُلقَّن،
بل تستيقظ
حين يشتبك الإنسان
مع آخر ما حمله إلى التراب.
يا الله…
حين لا تُنقذ الصلاة مظلومًا،
ولا تشفي الزكاة مريضًا،
ولا يُكتَب اعترافُ الحياة
إلّا تحت الركام، نكون في قلق،
نتلوّى مثل زوبعةٍ تنتحر.
هل يعلم الأشرارُ
أنّهم سوسُ القمح،
والرغيفُ المسمومُ بلونِ الجوع؟
يمضغون سكّرَ الأيام
بفمٍ يشبهُ باب المواقد،
يزحفون كحيتانِ الجشع،
بفمٍ عملاق…في نهايته ضياعُ الزمن.
لن يتعلّموا
أنّ للآخرين حياةً لا تقلّ ضوءًا عن حياةِ من يحيا.
علّموني
كيف نُبدع في الخير
إن كان الأشرارُ يحتفلون بقهرنا.
علّموني
أن نُشرق الشمس من الجهات الأربع،
كي يرى الضحايا الألم
في وضحِ النهار، ويتوضّأ به الأشرار.
ينظرون إلينا كصناديقَ للحزن،
ونحنُ نبني عروشَهم بصمتٍ
مغلّفٍ بورقِ الأرق.
لا تسأل: أين تنبتُ روحُ الإرادة؟
إن لم يكن لديكَ وقتٌ للبهجة.
علّموني أن كثرةَ الصفحات
لا تصنعُ نهايةً سعيدة.
البدايةُ في كلّ عنوان،
والنهايةُ تُكتب… منذ البداية.
ارحلوا عنّا جميعًا، وخذوا معكم
مفاتيحَ النهاية.
أشرارٌ على عتبةِ الرحيل…سنراكم في طريقٍ
ليس طريقَنا.
ارحلوا…
لم تعد الحروفُ تنطقُ كلمات،
ولا الكلماتُ تحملُ معنى
يشدُّ الخيرَ إلى القلوب.
أزهقتم روحَ أمّي…
وروحَ الزيتون.
لم أرَ في الحروب
سوى أقنعةٍ للخداع،
وموتًا
يقتلعُ أشجارَ العمرِ من جذورها.
منكم تموتُ أقدسُ القيم،
فانتصرت معنا الحياة لتأخذكم
حيث يبقى الليلُ بلا نهار،
ويبقى شعاعُ الشمس
دليلًا على الخير.
سيُثمر الربيعُ لنا قبل الصيف،
ويغنّي المطرُ أنشودةَ الزفاف.
في معادلاتِ الخلق،
لم تكن هناكَ حرب…ولا مظالم،
ولم نكن لِنُفسد،
لو فهمنا أنّنا لن نَخلُد.
وإعجابي…
أنّنا لن نخلُد.
انكشف السرُّ العظيمُ في المقابر…
فلا تُكابر.
(ط. عرابي – دريسدن)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .