هي قصة قصيرة تسرد في بضعة أسطر ، لكن أحداثها في الواقع دامت عشرين سنة (1999/2020) .
ورغم أن كل شيىء انتهى إلا أن ذكراك يا"وليد .ب" ستبقى معي ماحييت.
_________________________
✨ وليد ✨
لا زلتُ أذكر خطواته الأولى المرتعشة وهو يدخل المدرسة الإبتدائية لأول مرة، ممسكًا بذراع والده الذي كان متوجهًا مباشرةً إلى مكتب المدير... وبعد برهةٍ من الزمن رأيته يخرج من المكتب متوجهًا نحو قسمي، فتأهبتُ لاستقباله، فقد أدركتُ أنه تلميذ جديد التحق بصف تلاميذي، وقد كان استقبالي له مميزًا بحفاوةٍ كبيرة، وربما كان استقبالًا تطغى عليه الشفقة أكثر من الحفاوة هذه المرة، كما عهدتُني في كل مرة أستقبل فيها تلميذًا جديدًا.
حدث ذلك في بداية شهر سبتمبر من سنة 2005، مع بداية الدخول المدرسي، وكان موسمًا دراسيًا مميزًا لي أيضًا، حيث تم فيه دخول ابني البكر إلى المدرسة لأول مرة، وتشاء الأقدار أن يجلس بجانبه التلميذ الجديد الذي كان يُدعى "وليد"، ومن هنا بدأت صداقتهما المتينة...
كانا يقضيان وقت الراحة معًا، ولم يكن ابني يشعر بالقلق أبدًا من بطء حركته في اللعب، بل كثيرًا ما كان يقدم له المساعدة بوجهٍ بشوش، فقد رزقه الله قلبًا طيبًا يظهر في حبه لمساعدة الآخرين رغم صغر سنه آنذاك، وكثيرًا ما كان يستأذنني في الذهاب إلى بيت صديقه وليد ليمضي بعض الوقت معه، لأنه يعلم أنه وحيدٌ وبدون أصدقاء في حيّهم، فكنتُ آذن له بذلك. ومع الأيام أصبحت أم وليد تزورني في المدرسة لتسأل عن حاله وعن مستواه الدراسي.
وقد أخبرتني أن وليد يعاني من مرض مناعي في جهازه العصبي منذ الولادة، مما أثر سلبًا على صحته فتسبب له في إعاقة حركية مع ارتعاش الأطراف. وأخبرتني أن حالته تسوء عامًا بعد عام، والغريب أن وضعه الصحي لم يؤثر بتاتًا على ذكائه الدراسي، فقد كان يتمتع بقدرات كبيرة، مما سهّل عليَّ عملية تدريسه، ولم أكن أجد معه صعوبةً بتاتًا في توصيل المعلومات إليه، عدا حصة الكتابة التي كانت ترهقه وترهقني، لأنه لا يستطيع مسك القلم بسبب التواء يديه وارتعاش أطرافه.
وكثيرًا ما كان وليد يتعرض للتنمر في المدرسة من بعض التلاميذ المشاغبين، وقد كنت أبذل جهدي في نهيهم عن ذلك، محاولةً تأديبهم، مؤديةً واجبي التربوي بقدر المستطاع.
وكان وليد كثيرًا ما يصاب بنوبات تشنجية عصبية في أطرافه، مما كان يستلزم مكوثه في المستشفى مرات ومرات، وقد كنت أزوره مع ابني هناك حاملةً له دروسه المبسطة التي لم يحضرها. ورغم أنني كنت أدرك أنه غير قادر على الدراسة، إلا أنني كنت أريد أن أشعره أنني أهتم لحاله، فكان يفرح بزيارتي وزيارة ابني له كثيرًا، مما ساعده على فهم ما كنت أقدمه له من شرح عندما أجد حاله يسمح بذلك.
ومرت الأيام والأشهر والسنون، وتحصل وليد على شهادة التعليم الابتدائي بتفوق، وكانت إدارة المدرسة قد عينت له أستاذًا مرافقًا يكتب له إجاباته، لأنني لن أكون معه يوم الامتحان، ولأنني لست معنيةً بتصحيح أوراق إجاباته، فهو امتحان وطني له خصوصيته.
وفي هذه السنين كانت حالته قد ازدادت تأزمًا، لتبدأ معاناته بعد نجاحه وذهابه إلى المتوسطة، وهناك لم أكن معه، مما ألزمني أن أكمل معه واجبي. فاتصلتُ بأساتذته وإدارة المدرسة وأخبرتهم بوضعه، لكن للأسف لم يجد وليد الرعاية الكافية منهم، بحكم أن كل أستاذ يدرّس عددًا من الصفوف حسب تخصصه، مما جعلهم لا يتابعون وضعه كما يجب. فتعرّض وليد للإهمال الشديد وللتنمر المتواصل من تلاميذ المدرسة وحتى من أطفال الشارع، وأطلقوا عليه اسمًا لا أسمح لنفسي بذكره، فاستاءت حالته النفسية كثيرًا، مما أثر سلبًا على وضعه الصحي وعلى مردوده الدراسي، فأصبح يرفض الذهاب إلى المدرسة، وبدأت المعاناة الحقيقية له ولأمه .
وكثيرًا ما كانت تتصل بي حينما يكون مصابًا بنوبته النفسية الحادة ، وكنت أحاول جاهدةً تهدئته بكل الطرق، فكان يخضع في الأخير ويعانقني وهو يبكي بكاءً شديدًا.
وفي إحدى المرات، صدمني برغبته في الموت، فأدركتُ أن الوضع خرج عن نطاقي ونطاق أمه، فنصحتها بمتابعة أخصائي نفسي له، وكان الأمر كذلك، فعُيِّن له طبيب يتابعه في المستشفى العسكري حيث كان يُعالَج دوما.
لكن حالة وليد كانت تسوء يومًا بعد يوم، إلى أن فقد القدرة على المشي نهائيًا، فانقطع عن الدراسة للأسف.
ومرت الأيام والشهور، وأصبح وليد منطويًا نفسيًا ومكتئبًا، مما جعل نوباته النفسية العصبية تزداد حدة، فأصبح يلوم أمه التي جاءت به إلى هذه الدنيا مريضًا، وكأن الأمر كان بيدها.
ولم يعد يغادر المستشفى إلا نادرًا، وكنت في كل مرة أزوره كالعادة مع ابني، وأحاول تهدئته وأحاول أن أقنعه بأنه سيتماثل إلى الشفاء، وأن الأمر مرهون بإرادته، لكنه لم يكن يستجيب لي.
وحاولت أن أستفسر عن وضعه الصحي من إدارة المستشفى، فأكدوا لي أن حالته ميؤوس منها، فجهازه العصبي قد أُتْلِف بنسبة كبيرة، وربما سيسوء وضعه أكثر.
ورغم أن الظروف المادية لوالديه كانت متوسطة، فإنهما بذلا كل ما في وسعهما وأخذاه عدة مرات إلى المستشفى العسكري بعين النعجة بالجزائر العاصمة طمعًا في العلاج، لأن والده كان جنديًا سابقًا في الجيش الوطني، ثم أخذاه إلى تونس الشقيقة، لكنهما رجعا بدون أمل في شفائه.
وشاءت الأقدار أن أرحل من حيّي القديم للسكن في بيتنا الجديد الذي يبعد كثيرًا عن بيت وليد، فأصبحت أعتاده في المستشفى فقط من حين إلى آخر.
وفي أحد الأيام مرضت أمي مرضًا شديدًا، مما اضطرني إلى السفر معها للعلاج في العاصمة، ومكثتُ معها هناك مدةً طويلة، ثم عدتُ بعد شفائها.
وأذكر أننا كنا في بداية جائحة كورونا وبداية الحجر، وبعد أيام من رجوعي قال لي ابني محمد:
— أماه، أريد أن أخبرك بشيء ولست أدري كيف أبدأ معك الكلام؟
نظرتُ إليه نظرة تساؤل وخوف، وقلت له:
— ماذا هناك يا بني؟ لقد أخفتني!
أمسك ابني بيدي وقال لي بنبرة لا تخلو من البكاء:
— أمي، لقد مات وليد، ولم أشأ أن أخبرك عندما كنتِ مع جدتي...
انهرتُ حينها بالبكاء الشديد، وعاتبتُ نفسي كثيرًا لأنني انشغلتُ عنه في فترة مرض أمي، فلم أتصل به ولو مرة واحدة، وكان ذلك فوق طاقتي.
ومما آلمني أكثر أنني لم أستطع الذهاب إلى أم وليد، فقد كان الحجر قد طُبق في جميع البلدان، فاتصلت بها هاتفيًا فقط، وكانت لي معها مكالمة طويلة.
وانتهت حكاية مأساة وليد للأبد ، فهو الآن ينام بسلام في قبره حيث لا يوجد ألم ولا تنمر وفي انتظار أن التقي به في الجنة سأبقى أذكره وأدعو له بالرحمة والمغفرة.
13/01/2025
شفہٰاء الہٰروحہٰ
الجزائر 🇩🇿
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .