"على حافة الصبر"
هذه قصيدتي التأملية التي جمعتُ فيها بين لحظات يومية وأفكار وجودية. أقف فيها على عتبة الزمن، أستمع لصمت الحياة، وأتأمل التفاصيل الصغيرة التي تحمل معانٍ كبيرة
⟪على حافةِ الصبر⟫
(قصيدة للشاعر والمهندس طاهر عرابي)
دريسدن -2023 | نُقّحت في 27.06.2025
أذَكِّرُكُم:
أنّي وُلدتُ قبلَ سنةٍ من سنواتِ هذا العصر،
فلا تُتْعِبوا أنفسكم بالبحثِ عمّا لا نتشابهُ فيه.
إذلالُنا واحدٌ، يسيرُ على دربٍ متعرّج
حتى تاهَ في متاهاتِ العبث
وانكسارنا غلبت عليه شكوى الهرب.
أرتدي أزياءً من متاجركم،
وأرتشفُ القهوةَ على رصيفِ “ستاربكس”
بشهوةِ مَن أطاع الذوقَ الرائج،
دون أن يُفكّر في معنى القهوة،
وفي مآسي الفلّاحين في الغاباتِ المطرية،
وفي تسرّبِ الرِّبحِ إلى فجواتِ الأخلاق البراقة
في فقاعات القهوة .
أمضي… ولديَّ ما يشبهُ الصديقَ لألفِ صديق.
الطرقاتُ نفسُها تؤنسني،
تبقى لي حتى اليومِ الأخير،
إن قررتُ البقاء،
مأسورًا برِقّةِ العابرين من حولي،
وبحفيفِ أوراقِ القيقبِ الأحمر
على الرصيفِ المقابل.
بالقربِ منّي، نافورةُ ماءٍ
من عملِ فنّانٍ مسكين،
أخذ ثمنها… ثم غرقَ في البحر
اراد ان يمتع نفسه ببهجه الابداع
فتمتعنا نحن دون ان نبدع.
صوتُها يخدشُ القلب،
وكأنّ روحَ الفنّ تقرعُ أواني فارغة
والفنان يتسلق الماء بعنف الغريق.
لكنّ جموعَ الحمام
كانت تُسلّيني وتُنسيني
ارتطامَ الماءِ فوقَ بلاطِ الحوض.
نظرتُ، مرتعبًا من تحطُّمِ السكون،
فلابدّ من انحرافِ الرؤيةِ
عندما يدفعُنا شيءٌ شعوريّ
نحوَ الهرب.
اختبارٌ عكسيٌّ صامتٌ،
أنجَزته الحواسُ
لمقاومة الظلم من الخوف.
في الداخل، فتاةٌ تجلسُ في الزاوية،
تمسكُ كتابًا وترتشفُ قهوتها،
وكأنها تسرقُ اللحظةَ من نفسها.
تُوازِنُ بين الرشفاتِ والنظرات… وتبتسم.
لماذا يقرأون بشهوةٍ لا أملكها؟
أعلقُ نفسي على خيوطِ عنكبوتٍ بائسة،
وألصقُ وجوهي
على جناحِ فراشةٍ زرقاء،
تطيرُ إلى الأبد بلا معنى شاعري،
لكنها تحبُّ الحياة.
وأتكلم بهدوء السلحفاة نحو البحيرة.
الشعراءُ يملكون وجهًا خاصًّا،
يحملُ في طيّاته وجوهَ الغرباء كلّهم،
وحتى رشفاتُ القهوة
تأتي من وحيهم،
ثم تختفي…
نصفُها في المتعة،
ونصفُها تحت اللسان .
وهنا…
تتأثرُ القصيدةُ بكل هفواتنا،
مثل الفتاة في توازن المتع—
قهوة، قراءة، ابتسامة—
ويبنيها كما تُبنى التفاحةُ في الخيال…
أحلى من العنب.
لكن القارئ سيفهم شيئًا آخر:
أن العنب غرسه الشاعر… في التفاح!
وتطرف في قتل الجمال.
ما زالت الفتاةُ تقلّبُ الصفحات،
وترتشفُ قهوتها وتبتسم…
بغزارةِ وجهٍ لا يشبهُ أي شاعر،
حتى لو كتب معلقاتٍ في عصر الرشاقة.
هنا… تتخفى المشكلة،
ويختفي الشاعر خلفَ الأبواب،
لا أحد يعلمُ
كيف تسقط الكلماتُ كحباتِ مطرٍ على الوجوه،
وأيُّ خلايا تقتحمها،
فتغيرُ مسارها السريّ،
كأنها سرٌّ يتنفس في فجر ولادته.
وجودُ القصيدةِ في قفصٍ،
يقفلُه مزاجُ الحُبّ،
ويبقى سرًّا أبديًّا،
لا تجرؤ الكلماتُ على الهرب منه،
والقارئُ سجانُ نفسه.
ربما نكذب،
ونفرشُ بساطَ السكينة
على فوهة بركانٍ نائم،
بين جدارين أسودين متشققين،
ينسلُّ منه ضوءٌ
يُهدينا الطريق،
وسقفٌ مطليّ بالأمل،
رسمناه من شهواتنا المشتعلة.
يصطحبنا الغبارُ الذي نثيره بين الجدارين،
نجمعه كالحصى الثمين،
نزرع فيه وردةً شقية،
ثم نقول:
فاتنةٌ… لكن بلا رائحة،
كالغبار…
أما الشاعر، فقد حاول الاقتراب من الإبداع،
فسقط القلم، وضاع بلهفة .
⸻
هاتوا لنا رائحةً نعشقها،
ولو كانت تحتَ الأظافر!
سمعتُ القصيدة تهمس:
«أبدًا يا شاعر.»
اقتربتُ من الفتاة،
شاعرٌ مسموح له أن يحدق بالجمال،
وقلتُ لها:
دعيني أشمَّ الغبار من تحت أظافركِ،
لأكتبَ قصيدة.
كان الغبار تحت الأظافر… عطرًا،
والثقة بالشعراء كنزٌ
لا يُكلّف سوى الفهم العميق للقهوة الباقية على الشفاه.
الشاعر يكتب،
والقصيدة تقف على حافة الصبر،
القصائد صابرة،
والشاعر يعلم أن الوقت الضائع
ليس في مصلحة الدواجن… ولا الفلاسفة.
فمتى تتحرك بنا القيم،
لنرى ما لا يزول؟
فجأة،
وضعت الفتاة كتابها
في حقيبة جلدية مستهلكة،
منذ قرن — ربما اشترتها جدّتها
لحفظ الكتب من التعفّن،
فتعفّن الجلد من الوراثة —
وخرجت مسرعة.
صرخت خلفها:
“أرجوكِ! ماذا كنتِ تقرئين؟
هل قرأتِ للسيد كامو… الغريب؟
هل قرأتِ لي،
ولو قصيدةً واحدة ⟪على حافة الصبر⟫؟”
أشاحت بنظرها نحو النافورة،
فرت جموع الحمام،
واعتلى صوت الماء بشدّة،
سقطت بعض أوراق القيقب،
كأنها أجنحة طائر أحمق،
ثم اختفت… فوق بلاط النافورة،
كأسماك ساكنة.
(قصيدة للشاعر والمهندس طاهر عرابي)