في محراب الوطن المُكبَّل
أ.د. زياد دبور*
بالعقلِ أُحبُّكَ يا وطني...
لكنَّ العقلَ حينَ يواجهُ حقيقتَكَ،
ينهارُ كمدينةٍ اجتاحها الغُزاة،
ينزعُ عن نفسهِ وهمَ الانتماءِ،
ويكتبُ على جدرانِ الذاكرةِ
قائمةَ خيباتِهِ الطويلة.
وبالقلبِ أُحبُّكَ...
لكنَّ القلبَ حينَ يرى واقعَكَ،
لا يعودُ كما كان.
يضيعُ في متاهاتِ خطابِكَ
الذي يتشدَّقُ بالمجدِ الزائف،
وفي خرائطِكَ
التي تقسِّمُ أبناءَكَ إلى سادةٍ وعبيد.
يتركُ على ترابِكَ المُلوَّثِ بالوعودِ
آخرَ نبضاتِ أملهِ...
ويموتُ في صمت.
وحينَ يلتقي العقلُ بالقلبِ،
تتكشَّفُ المهزلة،
تسقطُ الأقنعةُ عن وجوهِ
المتاجرينَ بالشعارات،
يُكسَرُ الصنمُ القديمُ باسمِ الحقيقة،
ويقفُ المواطنُ أمامَكَ...
عارياً إلا من جراحِهِ،
حاملاً حقائقَ التاريخِ في صدرِهِ،
لا يخشى القمعَ،
ولا يخشى التهميش.
وحينَ تُفضَحُ الحقيقة...
لا تبقى الشعوبُ مخدَّرة،
تُوقِظُها صرخاتُ المظلومينَ
كما يوقظُ الرعدُ الغافلين،
فتنهضُ غاضبةً،
مُحتجَّةً،
تتحرَّكُ كزلزالٍ
تحتَ أقدامِ المستبدِّين،
تصرخُ بلا خوف،
وتكتبُ على جدرانِ الصمتِ
بياناتِ الرفض.
في الساحةِ، طفلٌ يقفُ
في طابورِ الإعاناتِ،
يتعلمُ أنَّ الوطنَ ليسَ خريطةً،
بل جوعٌ يُوزَّعُ بعدالةٍ
بينَ الفقراء.
وفي الزاويةِ، شيخٌ يحدّقُ
في جدرانِ المدينةِ،
يبحثُ بين الشعاراتِ المهترئةِ
عن وعدٍ لم يُكسرْ بعد.
فلا تسألني
إن كنتُ مواليًا أو معارضًا،
أنا إنسانٌ رأى في دساتيرِكَ
وعودًا كالسراب،
وشاهدَ كيف تأكلُ النخبةُ
خيراتِ البلاد،
بينما يتضوَّرُ أبناؤُكَ جوعًا،
ولا يُسمَحُ لهم بغيرِ
الهتافِ والتصفيق،
لأنَّ الخروجَ عن النصِّ...
هو الهلاك.
وتلك هي مأساةُ الأوطانِ...
أن يصيرَ الدستورُ
حبرًا على ورقٍ بالٍ،
وأن تتحوَّلَ الكرامةُ
إلى ذكرى من زمانٍ مضى،
وأنَّ القادةَ،
الذين تعهَّدوا بالحرية،
يكتبون بياناتِهم الكاذبة:
"لقد كان الشعبُ واهمًا...
فالديمقراطيةُ ليست في الاحتجاجِ والمطالبة،
بل في الصمتِ والطاعة
حتى آخرِ قطرةِ كرامة."
لكن...
ما زالت في العيون بقيةُ ضوء،
وفي الصدور قلوبٌ
لم تستسلم بعد للخوف،
وفي الأفقِ فجرٌ
ينتظر الولادة،
وفي رحمِ الليلِ شعبٌ
يتعلَّمُ كيف يقول: لا.
سيكتبُ للوطنِ تاريخًا جديدًا،
لا يبدأ بالذلِّ،
ولا ينتهي بالخنوع،
بل يولَدُ في صرخةٍ
تزلزلُ أبوابَ القصور،
ويُسطَّرُ بدماءِ الذينَ
رفضوا أن يُدفَنوا أحياءً.
*. © زياد دبور ٢٠٢٥
جميع الحقوق محفوظة للشاعر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .