أبي ركنُ الكون
أ.د. زياد دبور*
من أنا؟
سؤالٌ لا يسأله الأبُ لنفسه،
لأن الأبوة ليست سؤالًا،
بل إجابةٌ ممتدةٌ عبر الزمن،
إجابةٌ تُكتب في صفحات العمر،
وتُحفر في جدران الذكريات.
أنا مَن كان ظلًّا فصار شمسًا،
ثم غاب، وبقي الضوءُ شاهدًا عليه.
أنا مَن ناداهُ أولادهُ بأسمائهم،
ثم مشوا إلى الحياةِ يحملون صوتهُ في قلوبهم.
أنا الممرُّ الذي يعبرون عليه،
والجسر الذي يربط بين الأجيال.
أتذكر أيديهم الصغيرة في يدي،
وخطواتهم المتعثرة على الطريق،
وضحكاتهم التي كانت تملأ البيت ضوءًا،
وأسئلتهم التي لم تنته أبدًا.
تلك اللحظات البسيطة،
كانت أثمن ما في الرحلة.
أنا كأطلسَ أحملُ سماءَهم على كتفيّ،
لا أتذمرُ ولا أشكو، وحين أنحني قليلاً،
يسندونني كما أسندتهم.
أنا البوصلةُ الصامتةُ، أشيرُ إلى الشمالِ دومًا،
وهم يسيرون في دروبهم،
وفي عيونهم انعكاسٌ لبوصلتي.
الأبُ يُعطي، يُضحّي، ينتظر بصبر.
هو السدُّ الذي يمنع الطوفانَ،
ثم يتعلم أن يستريح حين تقوى سواعدهم.
هو الجبلُ الذي تستندُ إليه البيوت،
وحين يشيخ، تصبح أكتافهم جبالاً له.
أنا النخلةُ في الصحراء،
أحرقُ ظلّي لكي يستظلوا،
وأجفُّ لكي يرتووا من ثماري.
وحين تنمو البذور التي غرستها،
أرى ظلالها تمتد إليّ، تحميني من لهيب الشمس.
علّمتهم كيف يمشون، فعلّموني كيف أقف.
علّمتهم كيف يتكلمون، فعلّموني قيمة الصمت.
علّمتهم كيف يواجهون العالم، فعلّموني كيف أعود إلى نفسي.
هكذا كانت الأبوة مدرسة لي،
كما كانت لهم.
في المساء، حين ينام الجميع،
أجلسُ مع نفسي أتأمل رحلة العمر.
أحدّق في يديّ، فأرى فيهما تاريخ البناء،
وفي المرآة، أرى امتداد نفسي في ملامحهم.
قسّمتُ مملكتي بينهم،
وعلّمتهم كيف يبنون ممالكهم الخاصة.
علّمتهم أن الحياةَ مُفاوضةٌ،
وأن المروءةَ أن تقف شامخًا في وجه التحديات.
وحين أخبرتهم أن البطلَ أيضًا يتعب،
أدركوا أن القوة تكمن في الضعف المُعترَف به.
كنتُ شجرةً لهم،
منحتهم جذعي ليبنوا منزلاً،
وأغصاني ليوقدوا نارًا، وثماري ليشبعوا.
وحين أصبحت جذعًا،
جلسوا بجانبي يزرعون حولي أشجارًا صغيرة.
كنتُ أرسم أحلامي على ورقِ الصباح،
ثم أمزّقها لأصنع منها أجنحةً لهم.
وحين حلّقوا بعيدًا، عادوا يحملون لي أوراقًا جديدة.
أنا الصوتُ الذي تردّد في صدورهم،
قبل أن يعرفوا كيف يتكلمون.
أنا الذي رسمتُ أول دربٍ لهم،
ثم وقفتُ عند المفترق، أراقبهم يمضون.
وحين التفتوا خلفهم، وجدوني ما زلتُ أنتظر،
فعادوا ليرسموا معي دربًا جديدًا.
كانوا أصابعَ يدي، متفرقين لكن متصلين،
وحين تفرقوا في الدنيا،
عادوا كالأصابع تلتف حول يدي،
يعيدون لكفّي دفء الحياة.
أنا الذي قلتُ لهم:
احذروا النارَ، فإنها تحرق!
وحين احترقت أيديهم، عادوا ليضمّدوا جراحي.
أنا الذي قلتُ لهم:
الريحُ لا تقتلُ الشجرةَ، إلا إن خانتها جذورها!
فعادوا ليسقوا جذوري بماء الوفاء.
أنا البئرُ الذي استقوا منه،
وحين ظنّوا أن ماءه قد نضب،
حفروا حوله آبارًا جديدة، ليعود الماء إليه.
في لحظات الصفاء، أرى ابتساماتهم،
كنسمة تحمل ذكرى ما كنت عليه.
أرى في عيونهم ما كنت لأبي،
وأعلم أن دائرة العطاء لن تنقطع.
كما كنت سندًا لأبي حين شاخ،
هكذا هم معي، امتدادًا للطريق.
لأن ما زرعته في قلوبهم،
ينبت الآن أمام عيني.
وفي عيون أحفادي،
أرى انعكاس ملامحي مرة أخرى،
وأسمع صدى صوتي في ضحكاتهم،
وأرى طفولتي تتكرر في لعبهم.
هكذا تتجدد الحياة،
في دائرة لا تنتهي.
لكن في أوقات الوحدة،
أجدني أفكر في كل ما مررت به،
في الأيام التي أرهقتني ولم يرونها،
في الليالي التي كنت فيها وحيدًا في الظلام،
أجد نفسي أبحث عن جزءٍ من دفءٍ فقدته.
وأخشى أن يأتي يومٌ يُنسى فيه الصوتُ الذي كبروا على سماعه.
لكن أعود لأتذكر:
هم جزء مني، ولن يغيبوا أبدًا.
أنا الذي كنتُ هنا دومًا،
وهم الآن هنا معي.
أنا الذي أحببتهم بصمت،
فأحبوني بكلمات تملأ الفراغ.
أنا الذي خبأتُ خوفي عليهم خلف القسوة،
فعلّموني أن في الضعف قوة.
لم يروا الدموع التي نزلت داخلي،
لكنهم مسحوا الدموع التي سقطت.
لم يسمعوا أنين الخوف في صدري،
لكنهم سمعوا صمتي وفهموه.
لم يشعروا بأن يدي التي أمسكتهم بشدة،
كانت ترتجفُ من الرّحمة،
لكنهم أمسكوها بين أيديهم ليوقفوا رعشتها.
وحين كبروا وسلكوا دروبهم،
صرتُ كالمنارةِ البعيدةِ على الشاطئ،
ثابتًا في مكاني، أُرسِلُ ضوئي لسُفُنِهم،
فعادوا يحملون لي مصابيح صغيرة، تضيء عتمة ليلي.
وحين أصبحتُ شيخًا،
وحين ضعفت يداي التي كانت تحملهم،
امتدت أيديهم نحوي كما امتدت يدي لأبي،
وسمعت في كلمات العطف الدافئة،
صدى صوتي الذي كنت أهمس به في أذنه.
فأنا الصخرةُ التي تحوّطها صخورٌ صغيرة،
أنا الشجرةُ التي تظللها أشجارٌ غرستها بنفسي،
أنا الجدارُ الذي تسنده أعمدةٌ من صنع يدي.
هكذا تدور عجلة الزمن،
وتبقى الأبوة قانونًا أزليًا،
ما أخذناه نعطيه،
وما تعلمناه نورثه،
كقافلة نور تعبر الأجيال.
وحين أفكر في رحلتي كأب،
أبتسم كرجلٍ يحفظ أسرار النجاح،
وأهمسُ في صدر الريح:
"حيثما ذهبوا... ستجدهم يشبهونني."
لأن الأبَ لا يرحلُ حين يشيخ،
ولا يغيبُ حين تمر السنون،
الأبُ... ركنُ الكون، يبقى في أبنائه،
حتى بعد أن يرحل.
*. © زياد دبور ٢٠٢٥
جميع الحقوق محفوظة للشاعر