النِّسـر/سليمان دغش
وأنظُرُ للبعيدِ بِعَينِ نِسرٍ جارِحٍ، فأرى القَريبَ
بِوسعِ مَدَّ أظافري، وأرى البَعيدَ برغمِ بُعدِهِ
في المدى مثلَ السَّرابِ على امتِدادِ جَوانحي،
لو شِئتُ أوقَفتُ السّرابَ بِنظرتي وأعدتُهُ مستسلِماً
وَمُسَلِّماً لإرادَتي
فأنا السَّرابُ الحَيُّ، لا أُفُقٌ يُحَدِّدُ رؤيتي
ورُؤايَ أبعَدُ ثُمَّ أبعَدُ منْ مَعارِجِ سِدرَتي،
وطَني السَّماءُ على اتِّساعٍ لا حُدودَ لهُ،
أحَلِّقُ عالياً حُرَّاً بها، والأرضُ، كُلُّ الأرضِ،
بَعْضُ مَمالِكي تَحتي،
أحَلِّقُ فَوقَ ماء خَريطتي ما بينَ بَحرٍ أبيَضٍ مُتَوسِّطٍ
حتى خَريرِ النَّهرِ يلثَغُ تَحتَ ظِلِّ جَوانِحي،
للبَحرِ عادَتُهُ القديمَةُ أنْ يُعمِّدَ شاطِئي البَحرِيَّ منْ
حيفا إلى يافا القديمَةِ ثمَّ يغفو عِندَها كإلهةٍ
نامَت على ترنيمَةِ الآهاتِ،
كمْ من موجَةٍ سَجَدَتْ على قَدَميكِ واعتَذَرتْ مِنَ المَلكوتِ
فيكِ وأزبَدَتْ دمعاً يُكَفِّرُ عَن خَطيئَتِها
بأنْ ترَكتكِ وَحدَكِ ذاتَ عاصِفَةٍ ولمْ تُنذِرْكِ
بالآتي إليكِ، بغَفلةٍ مِنها وَمِنكِ فهَلْ قَبِلتِ الاعتذارَ؟
وطالَ طالَ الانتظارُ على مَفارِقِ عودَةٍ وهمِيَّةٍ
لمْ يَبقَ مِنها غير أرشيفِ الأغاني في إذاعتنا
الحَزينَةِ، قد تكَدَّسَ بالغُبارِ وكادَ يُنسى، إنَّ للنسيانِ
نِعمَتهُ ونَقمَتهُ، وفي الحالينِ آخِرُهُ المَذَلَّةُ، ما المَذَلَّةُ
غيرُ موتٍ في الحياةِ بِبُطئِهِ ما أصعَبَ الموتَ البَطيءَ،
ولمْ أزَلْ حَيّاً وأنظُرُ للبَعيدِ بِعَينِ نِسرٍ جارِحٍ،
فأرى القريبَ بوسعِ مَدِّ أظافِري
وأرى البَعيدَ، ولا بَعيدَ برؤيَتي، فأنا السَّرابُ الحَيُّ
وَحدي، لا سرابُ الوَهمِ، أمضي في مَعارِجِ سِدرتي
عَمَّدتُ بالحِبرِ المُقَدَّسِ منْ دَمي كُلَّ الحروفِ على
نشيدِ قصائدي لتكونَ تِلكَ وَصِيّتي، فانْظُرْ بَعيداً
فالقريبُ على ابتِعادٍ دائمٍ، أما البَعيدُ على اقتِرابٍ
قادِمٍ حتْماً إذا حَدَّقتَ فيهِ بِعينِ نسرٍ جارِحٍ مُستَنفِرٍ أبَداً
برؤيَتِهِ على مَدِّ الرؤى
حلِّقْ بعيداً في رؤاكَ فلنْ ترى شيئاً هُنا وهُناكَ إلّا
إنْ نَظَرْتَ إلى البَعيدِ بعَينِ نِسْرٍ في الرؤى
حَتَّى تَرى...
(سليمان دغش)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .