"شقيقي الحافظ"
لم يكُن يُدرك هذا الصُعُلُوك الأحمق يومًا ما، بأن سيكون لهُ شقيقاً يصغرهُ بأعوام، من حفظة كِتاب الله.
نعم من حُفَّاظ القرآن!
شقيقي "مازن" القاصِرُ في العُمُر، يحفظُ القُرآن في بِضعةَ أشهر.
لا أدري كيف أسرق الحرف، لأكتب الجُمل وأُرتِّب السرد، بوصفٍ مُكتمل.
من حولي نور ، ومن خلفي نور!
السماء ضاحِكة، والأرض مُبتهجة!
القمر ساطع، والشمس مُشرقة!
الأضواء تمحو الظلام، والقناديل تعدَّدَّت لتُبارك الإزدحام.
صغيرٌ صافي العقل، نقيُ الفكر، مُهذب الصِفات، منعَ التلوث من أن يقترب مُخيلتهُ وفعل، وحافظ على إنسانيتهُ ليُدخل شفرةً مُبرمجة بالقرآن.
كان يُحافظ على أن تتوسخ بشاشتهُ، أو تتصبع ذاكرتهُ، فنالَ ما طلب، وحقَّقَ ما أراد، بجدارةٍ يُحسدُ عليها. أصرَّ بِكلِ عزيمة، بِكلِ ما يملك من قُدرات، وتحكَّمَ في قِياس تيار هدفهُ، حتى أضاء المكان القاصدُ وصولهُ. تسلَّلَ ودخل السراديب، أقتحم المأزق، بين الظلام، غامرَ بِحياتهُ دون أن يهاب أي شيء.
صادف عناء، وطريقٌ شاق، لكن تجاوزها بالجدّ والمُثابرة.
لقد فاز بالدارين!
كان يمتطي الأحلام، ويركب الأماني، يُخاطب الخيال ليراء الأمل بِنية صادقة.
لم يكل.. أو يمّل.. من وعث السفر، على درب التيه، في بحر الوهم.
بل أستمرَّ حتى وصل النهاية، واترشف من كأس طيفهُ كوب الأمل.
يا لها من غرابة!
تطرب العقل بذهولٍ جملية، وسعادةً لا تتصف.
إنها صنعت نفسها ، بتباشير خبرها المسموع في مسامعنا، المُبث إلينا بأعلى صوتهُ.
يا لهُ من حماس، وتلهُف لشغف الكِتابة، حول خبرٍ كهذا. يتمنى القلم أن يظل ساجداً يُسبح بحمد هذا النجاح، دون أن يرفع رأسهُ من على سُجادة الورق طوال الدهر.
كانت ظمأنةٌ أطماحهُ، اختنقت بجفاف العطش الشحيح، المحروم من زخات المطر، وقطرات الماء، في قفر السخاء.
أهلكها اليباس ، فأنزل الرب رحماتُ اللِهم، وغيث الزُهُد، فانفتح العقل، واستجاب والقلب، لهداية الرب، لحفظ قرآنهُ الراشد.
وكِتابهُ الواعظ، ودليلهُ الصائب، فحقَّق ذلك.
رغم الصعاب، وموت أمل الحياة.
أعاد الأمور إلى مجاريها ، والأشياء إلى مواقعها.
رتَّب دوراً فنياً لم تفعلهُ الدراما والمُلهيات.
كان فيهِ البطل!
لا تتخيل أنت حينها .. أن هذا سيولدُ من رحم المُعاناة، أو سيتناسلُ من عُقُر البؤوس، أو سيحبلُ من عُقُم مآتم.
لكنهُ أصرَّ.. وفعل! وشاهدناهُ أمام الأعين حقيقة.
أخجلُ من شخصٍ موقر، تحلى بالثبات، على صواب عقيدةٍ مذهبيةٍ مُمثلةٌ بدين الإسلام الحنيف.
لا أعرف كيف أُصمِّمُ مشهدًا تتكاملُ فيهِ كلِ أدوار قصةِ موهوبًا أراد النجاح أن يكون لهُ حليفًا فكان.
ستظل رغم تواجدها نواقص، لا تخطُر في البال، لتسبب خللاً في نظم بُنية المقال.
وإن كانت الإحتياطات فوق الإحتمال!
لقد لبسَ ثوب التفاخر ، وارتدى لِباس الرِضى.
تتوَّج بتاج النور، وتنوَّر بالآيات المنحوتة على لوح عقلهُ.
تغسَّل بماء زهدهُ، وتعطَّر بنفحات رشدهُ، تزيَّن بالهُدى، وسار بين سواد الظلام بنورٍ تام في غسق الدُجى.
هِيَ بساطةَ التُعساء في المنافي!
أراد يكون الضياع حليفهم، فاستطاعوا أن يخلقوا عالمهم من منفى الضياع الحالمون به.
أليس هذا جميلٌ أن تأتي تباشير أخبارٌ سارة، تحمل بين طيات صفحاتها بهجةٌ، يتلهف إليها الجميع بعد الفُقدان.
بل وفي أحشائها عالمٌ يتظاهرُ بالمسرة، رغم بؤس الحياة .
بل بالفعل ستكون أجملُ بكثير مما نتوهم ، وأود أن تكون كذلك .
أخشى أن يُصيبني الغفى، ويعبث بي الملل، قبل أن أتمم صِياغة النص السردي، المحكوم في إطارٌ من ذهب.
لا أرغب أن أترك نثراً كهذا مفتوحًا، وأذهبُ للهو الملعون عِنِوة .
قد نعتاد على بشارةً تلو أخرى ، ونتنقل من نصرٍ إلى أخر، ولكن ليس بقدر الكم الهائل المُحاط بنا في مثل هذا الفرح، النابِع من صميم الكآبة.
إنهُ يستحق أن تظل حادقًا بعينيك لتركيب جُملاً تلو أخرى ، حتى تكون صادقًا في ايفاء البوح حقهُ، دون أن تخرس هنيهة هُطُول السماء ثرثرة، عن أرض الورق. فضفض حتى تنفد آخر قُطرة حبر، ثم توقف بعدها إن شئت.
قد يتصاعد من بطن المباخر دخان طيب الريحة، ويتسرب من فوهات قنينة المعاطر بخار المسك، ويتصبب من طيب الندى عبقًا ، تتكون سُحباً من غيم، ليأتي مطر السعادة فيمكث هنا.
يجب أن تظل مُعتكفاً حتى تنفد آخر دمعة من نهر القلم، على جبين الورق، ويفنى الكلام أيضا .
قد نُفضل الإستمتاع برقص الحفلات، التي تركض خلفنا، ولكن ليس بقدر المسرات التي نسعى وراءها، بقصد الإمساك بها قبضةً واحدة، لنبرزها أمام العالم أجمع، بمفاتن سحرٍ ورشاقة، تلألأت ألقًا لتصف دلالها بمحاسن نغمها المُطرب، بلحن أوتار حنجرة فنانها، حين يتغنى، ويتلو بالصوت الرهيب مُرتلاً تلك الآيات، التي عجزَ العتاولة على أن يأتوا بآيةٍ واحدةٍ مثلها قط.
تفتح الجبال والتلال والروابي أذنها لتقف خاشِعةً مُتصدعةً من خشية الله. فما بال أناسٍ يسمعون كلام الله ولا يخشعون.
نتخبط في ظُلمات الشعور، وها هو النور التام، يجب أن نشعل شُموعهُ ونستنير.
لا يكفي أن أُكلم رغبتي أن تستمر بالكتابة، على النحو المُراد تشكيلهُ، بل يجب أن أتوسل اللغة ، أن تُساعد في إسنادي على إتمام الشطر الناقص، وأطلب من تلك الشعور أن يُواصل البحث كي نُكمل القصيدة .
سأكون مُتسولاً حتى استنبط خُلاصة قافيةٍ لِخِتام نثري العالق، من بحر شعرٍ، عن قصةُ نجمٍ ساطع. ضجيجهُ يكتظ مُزدحمًا في ذاكرتي ولا أستطيع إفراغ الفوضى منها بسهولة، سأطلب العون من لغةٍ أُريدها أن تصير روايةٍ لشقيقي الحافظ .
سأطوف كل صفحاتها، وكل سطورها، حتى أقطفُ من كل غصنٍ وردة، كي أشقر بالورد صغيري الأنيق، المحروس من كل البلايا، بسلاح ما يحمل.
إلهي! أسألُك كما كنت في عونهِ على تدبر حفظ كتابك، كُن في عونهِ على أن يكون جديرًا على العمل به، بل وعلى النفع فيهِ من حولهُ.
يا للدهشة.. كُلما حاولتُ أن أقتفي وزناً من فاقيةٍ لتكون الخاتمة، تنفتح شهيةٍ لذلذةٍ في نفسي لتمديد النص، وتوسيع بناء جدران سور المدينة، المُؤسسة فوق صلابةٍ لا تُزلزلها البراكين، ولا تُحركها الهزَّات، تظل شامخة، لا تنحني، تتحدى العالم، ببنائها المعمور أن يُحرك لهُ ساكن.
أرفعُ القُبعة إجلالاً لهذا الحافظ الكريم تارة، وأحسو ندبة حسدٍ أن أكون مكانهُ تارةً أخرى.
لقد بلغ مرتبةً رفعت مكانتهُ، وكبر سموهُ.
إنهُ بمثابةٍ تستحق أن يُحسد عليها!
الكون يتبسم، والوجود لا يتسع لضوضاءٍ كهذي الذي ليس لها مثيل.
إنها زخارفٌ نُقِشت في العقل، زادتهُ زينةً فوق زينتهُ، وبهاءً فوق بهاءهُ.
أعجزُ بفصاحتي وثقافتي أن أصف جمالاً يفوق البلاغة، ويتجاوز الوصف، يتعدى كل شيء.
أعجزُ أن أُبالغ بقصائدٍ صارت بلاغة!
يعجزُ أن يروي شاعرُ خيالاً أراد أن يكون أكبر من اللغة ذاتها.
ها أنا أعترف أني عاجز، إلا إنني نلتُ شرف المحاولة أن أكون أول من نزع قلمهُ من غمدهِ، وغامر حتى نسج ومضةً مما يملك، خيرٌ من أن يُصلِّب حبر قلمهُ في أُنبوبتهِ ويبقَ عازفُ صمتهِ في ظل مشهدًا حافلاً كهذا.
وها أنا الليلة.. أدركتُ إني على متن سفينةَ حافظ القرآن الكريم وقد رست هذا المساء؛ ليترجل راكِبُها عن متنها بعد رحلةٍ قد مضت، كانت سفينتنا في البحر ماخرة، تسابق أمواجه، واجهتها الريح فما غيرّت وِجْهتَها، وقذفتها العواصف فما حطمت نشوتها، وهي تجري بنا في هممٍ كالجبال، مضى لرحلتها عام ، وما تحطم جُرمها، والركْبُ آمنون، وكتاب الله يتلى، فلا تسمع له إلا دوياً كدوي النحل، فالحمد لله رب العالمين.
أخي أيها الحافظ الكريم.. ما أجمل اللقاء مع أهل الود والصفاء، وها أنا أول ليلةٍ أسهرُ في هذه المُناسبة المُباركة أبث إليكم فيها رسائل قلبية صادقة.. أصالة عن نفسي ونيابةً عن شقيقي الحافظ.
طرائفُ بعنوان: أقول لكَ فيها يا حامل القرآن..
نوّر وجهك في هُدى القرآن
واقطف حصادك بعد طُول نِضالِ
وسلكْ دروبَ العارفين بهمةٍ
والْزمْ كتاب الله غيرَ مُبالِ
فهو المُعينُ على الشدائدِ وطأةً
وهو المُهيمنُ فوق كل مجالِ
هذه الرسالة.. أباركُ فيها للحفاظِ على حفظِه ، وأسألُ الله ألا يُضيَّع سعيه وجُهده فقد ثنى الرُّكب ، واحتمل النَّصب ، وجدَّ واجتهد ، ورام ذُرى المجد فوجد، فما أسعدهُ بهذا الشرفِ النبيل.. أخي الحافظ.. تعاهد هذا القرآن الذي هُو أشدُّ تفلُّتاً من الإبل في عُقُلها، إن فقدتهُ في الطلَّب فقد وقعت في العطب وكنت منْ أوَّل من تُسعَّرُ بهِ النارُ يوم القيامة، وحسبُك بذلك واعظاً إن أردت الحق والهدى ، ثم العمل أخي الحافظ بهدا القرآن العظيم فمِنْ أجلهِ تُلي وأُنزِل فليس المُرادُ حفظهُ فحسب؛ بل تُمَثِلهُ في الحياة واقعاً بِتوّسُط واعتدال كما كان عليه سلف الأمة الأخيار، فليكن أحدكم قرآناً يمشي على الأرض.
صفوان القاضي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .