تشكل القصيدة الحداثية
انصب اهتمام النقاد والدارسين على كتابة القصيدة ذاتها، ولم يعيروا اهتماما ذا بال لما قبل الكتابة من حالات نفسية وتحولات روحية وفكرية ووجدانية تسبق عملية كتابة القصيدة. ومرد ذلك إلى جهلهم بل جهل الشاعر نفسه ما يحدث في ذاته قبل الكتابة فلعل ما يمكن الإمساك به هو المكتوب فقط. وهذا ما جعل كثيرا من النقاد ينظر إلى ذلك بعين النقص والقصور ويدعو صراحة إلى إشراك المبدع في العملية النقدية عملا بمقولة الشاعر الألماني نوفاليس: «من لا يستطيع أن يبدع القصائد لا يمكنه ان يحكم عليه إلا حمكا سلبيا، النقد الأصيل يرتبط بالقدرة على إبداع نفس الإنتاج».
ولئن استطاع النقاد أن يحددوا مراحل إبداع القصيدة فإن ذلك يدعو إلى طرح جملة من التساؤلات: هل هناك قاعدة ثابتة تتحكم في آليات خلق القصيدة؟ وكيف تتشكل عناصرها؟ بل كيف يتشكل النص؟ وكيف تتحكم في القصيدة المتغيرة اللامتناهية قوانين ثابتة محدودة؟ وكيف يمكن أن يحيط المحدود بما ليس له حدود؟
ليس من لغة كان لها سلطان على أهلها كالعربية لغة الشعر والدين، لغة الأدب والكتابة، أربعة عشر قرنا واللغة العربية تتعاقد مع أهلها بفوقية واستعلاء.
ولقد كان الشعر وما يزال الوجه الأكثر نضرة وإشراقا بين كل النشاطات الثقافية. إن الشعر الذي يتسم بتواتر لا انقطاع فيه، هو وحده استمرار لمسيرة تاريخية مازالت تحمل حقائبها وتسافر. في نظر أدونيس: «كل شيء ينصهر في الشعر، لأن الشعر ليس طريقة للتعبير فقط إنه وجود وطريقة وجود. لذلك تجد كل القيم تنصهر فيه. ترى من خلاله الحب...الموت...». بل «الشعر رئة العالم ولا تنفس إلا به الشعر بديهي كالحياة. الشعر لا يوصف ولا يحدد، ومن لا يعرف الشعر أو لا يحسه مباشرة يستحيل أن تكون لديه فكرة عنه، الشعر لا يمكن تعلمه، ولا يمكن تعليمه».
لقد أجمع الدارسون على أن ثورة الحداثة في الشعر العربي المعاصر هي ثمرة احتكاكنا بالغرب، كما أنه من غير الممكن النظر إلى ظاهرة الحداثة، مبتورة عن ماضيها العربي الذي شهد حركة تجديدية في الشعر، بدْءً بخليل مطران مرورا بجماعة الديوان، وجماعة أبولو وانتهاء بشعر المهجر، فضلا عن كونها استجابة للواقع العربي في عصر النهضة، الذي راح يمور مفتشا عن الجديد في كل مكان.
الحداثة هي خلق باللغة؛ بل هي في حقيقة الأمر إعادة الخلق ذاته، والسباحة بها لمناطق هي بالضرورة غير مأهولة. وإعادة ترسيم وظيفة جديدة للمألوف والمعتاد منها. وربما هذا الذي يُفسر سر الثراء اللامحدود للقصيدة الحداثية؛ حيث تظل اللغة على الدوام وأدوات الشاعر الفاعلة ومضات مضيئة لتفسيرات آنية ومُستقبلية للنص الشعري.
فالشاعر اليوم يلح دائما على اعتبار القصيدة الحداثية ولادة جديدة وخلقا مستمرا. فالشاعر ليس الذي لديه شيء ليعبر عنه فحسب، بل هو إلى ذلك الشخص الذي يخلق أشياءه بطريقة جديدة. لأن لغة الشعر ليست لغة تعبير بقدر ما هي لغة خلق.
وهذا الخلق لا يستقر على حال واحدة، وإنما يتجدد باستمرار، فهو أشبه بأمواج البحر يمحو بعضه بعضا لذلك فالخلق هو «إبداع برق لا يتكرر وانبجاس مفاجئ قائم بذاته، ينظر إليه في حدود ذاته».
تبدأ القصيدة دائما في الإحساس بقلق مدمر من حالة وجودية. وهي لا تبدأ بتشكيل ذاتها إلا بالعثور على جملة موسيقية هي النواة الشكلية للقصيدة، يحتاج استكمالها إلى حالات نفسية أو إلى عنصر تفجير نفسي، تتدفق فيه القصيدة بعقلانية تلقائية. ولكن لا يمكن أن تترك القصيدة سائبة وحرة في هذا التدفق. وهنا تأتي العملية الثانية في كتابة القصيدة، وذلك عندما يتحول الشاعر إلى ناقد، أي عملية تحرير القصيدة.
فــــالإيقاع في نظر محمود درويش: «من حيث التوقيت متقدم زمنيا إنه الملك الذي يمشي أولا ومن ورائه تمشي اللغة كوصيفة ثانية. القصيدة تبدأ... بهذيان موسيقي، بغمغمة بكلام لا كلام له. ثم تأتي اللغة لتنظم هذا الهذيان وتحتويه وتحبسه في داخل زجاجات المفردات... طبعا الإيقاع سطح ممغنط تنجذب إليه الكلمات بصورة جبرية كما تنجذب برادة الحديد إلى المغنطيس».
ويرى: أنَّ زمن القصيدة واحد ولكنه يسكن أمكنة مختلفة أو زمن يتقمص زمنا آخر. ربما نجد زمنا شعريا ستكمل نفسه في زمن شعري آخر يتكرر. هذا نسميه وطنا شعريا. ثم يقول: كثيرا ما أكتب مقاطع أو جملا شعرية وأهملها، ثم أفاجأ بأنها تحولت إلى زمن شعري آخر في مكان آخر، أي في قصيدة أخرى. لم يحدث أن ذهبت إلى الكتابة بشهية ورغبة وتحققت رغبتي. القصيدة دائما مفاجئة، وتأتي في أسوأ الأمكنة والحالات النفسية، وعلى أكثر الأوراق فوضوية. في حالات كثيرة كانت القصيدة تخدعني بأنها ناضجة ومتكاملة في ذهني وفي نفسيتي، وعندما أحضر الورق النظيف والأقلام الاحتياطية والقهوة، تخونني القصيدة.
ليس هناك أية قاعدة، أو عادة لعملية ميلاد القصيدة. تبدو عملية الإبداع الشعري إحدى أهم القضايا في نظرية الشعر بشكل عام، كما تبدو أيضا إحدى أدق القضايا وأعقدها في حقل الدراسة الشعرية ذلك لكونها تتعلق بحالة روحية يعيشها الشاعر في حالاته النفسية الكثيفة التي تتراكم فيها طبقات من المشاعر المختلفة، تفقد الشاعر القدرة على الوعي بها وعيا كاملا مفصلا. وهذا ما يجعل الشاعر عاجزا عن تقديم خريطة معاناته بوضوح.
إن التجربة لا تدرك بل تعاش، فإذا كان الشخص الذي يعيشها لا يملك أن يقدمها لغيره مفصلة وواضحة وكاملة، فإن غيره سيكون أعجز منه.
غالبا ما يقر كثير من الشعراء بعدم قدرتهم عل تبيين ملامح عملية الإبداع واستجلاء أغوارها، واكتناه غوامضها، وتتبع حركيتها، يقول نزار قباني: «ليس من السهل مراقبة القصيدة، وهي تتشكل والشاعر الذي يحاول أن يتأمل حركة أصابعه على الورق، يشبه سائق الدراجة الذي يتأمل حركة قدميه فيرتبك... ويفقد توازنه. والشاعر الذي يدعي أنه يعرف كيف تتحرك الجوانية يجهل حقيقة اللعبة.»
ويؤكد محمد الفيتوري: «لا أعتقد أن شاعرا ما لديه القدرة الكافة على مواجهة ذاته الشاعرة، ورصد الحالة غير الطبيعية التي تلبسها هذه الذات أثناء انهماكها في عملية الإبداع». فإذا كان الشعراء أنفسهم وهم الذين يعانون ألم المخاض لم يتمكنوا من استيعاب عملية الإبداع فكيف بغيرهم ممن لم يمسسه سحر الإبداع؟
يقول عبد العزيز المقالح: كيف يتسنى لمن لم يعان الخلق والإبداع من احتشاد الصور إلى تزاحم الألفاظ وانثيال المعاني في عقل الشاعر ساعة المعاناة كيف يتسنى له أن يتحدث عن العمل الذي أبدعته تلك اللحظات في رؤوس الآخرين؟
الشاعر التلمساني يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .