دوافع إبداع القصيدة
منذ أن عُرِفَ الشِّعرُ طُرح بإلحاح سؤال العلاقة بين النص الشعري وصاحبه، فتعددت الإجابات بين النقاد عبر العصور. لقد تناول النقاد القدماء مسألة الدافع للكتابة وعزوها إلى الانفعال. ولعل إجابة الحطيئة عن أشعر الشعراء ما يؤكد ذلك في قوله: «النابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، وجرير إذا غضب». وسئل أبو نواس عن كيفية عمله في صناعة الشعر فقال: «أشرب حتى إذا كنت أطيب ما أكون نفسا بين الصاحي والسكران صنعت وقد داخلتني النشوة والأريحية». بينما يرى محمود درويش أن القلق هو الحالة التي تسبق الكتابة: «إنها دائما تبدأ من الإحساس بقلق مدمر من حالة وجودية، وهي تبدأ بتشكيل ذاتها إلا بالعثور على جملة موسيقية هي النواة الشكلية للقصيدة، يحتاج استكمالها إلى حالات نفسية أو إلى عنصر تفجير نفسي، تتدفق فيه القصيدة بعقلانية تلقائية. ولكن لا يمكن أن تترك القصيدة سائبة وحرة في هذا الدفق. وهنا تأتي العملية الثانية في كتابة القصيدة، وذلك عندما يتحول الشاعر إلى ناقد، أي في عملية تحرير القصيدة» ويقول يوسف الخال في هذا المعنى: «ينفعل الشاعر بتجربة ما فيدفع إلى كتابة القصيدة، فالانفعال هو المخاض الذي يسبق الولادة.»
ولعل هذا يتطابق مع القول بأن وراء الشعر قوى خفية غير مدركة، وأن دور الشاعر لا يعدو ينحصر في توصيل ما يتلقاه، فقد ذهب هذا المذهب أفلاطون حيث درس عملية الإبداع الفني، وأخذ بفكرة الإلهام فالشعر عنده ينبعث عن قوة خفية، تدفع الشعراء إلى قول الشعر دون أن تكون لهم إرادة في ذلك أو قصد. لذلك كان الإغريق يعتقدون بوجود أله الشعر فسموه ربة الشعر، كان هوميروس يناديها ويطلبها أن تلهمه:
رَبَّةَ الشِّعرِ عَن أَخِيلَ بنِ فِيلاَ
أنشِدِينَا وَاروي احتِدَاماً وَبيلا
ذَاكَ كَيدٌ عَمَّ الأَخَاءَ بَلاَهُ
فكِرامُ النُّفُوسِ أَلفَت أُفُولاَ
ومثل هذا الاعتقاد وُجِد عند العرب قديما، حيث ربطوا منابع الإبداع الشعري بقوة خفية تلهم الشاعر ما يقول، وما يكتنفها من غموض، وما يظهر على صفحات الشاعر من أصناف العبقرية بوجود شياطين الشعراء فإنهم كما يقول الجاحظ يزعمون أن مع كل شاعر شيطانا، بل إن هناك واديا يعج بشياطين الشعر يسمى وادي عبقر.
اهتم الدارسون بمراحل الكتابة، فقسموا عملية الإبداع إلى مراحل مختلفة، -وغير مجد في اعتقادي التفصيل فيها –لكنّها على أية حال لا يمكن اعتبارها وصفا نهائيا لرحلة القصيدة من ذات الشاعر إلى الورق، فالقصيدة يمكن أن تكون مرحلة واحدة، تبدأ من لمع البرق الخاطف وتنتهي حيث تتجسد في اللغة.
لقد تحدث كثير من الشعراء العرب المعاصرين عن الكيفية التي يكتبون بها قصائدهم، وتعرضوا إلى الرحلة التي تقطعها القصيدة. يقول عبد الوهاب البياتي: «القصائد تعيش في صدري سنين طويلة، وهي لا تنبت فجأة ولا تبرز إلى الوجود، كما يبرز الجن المحبوس في القمقم، الذكريات، والكلمات والصور المتناثرة المؤثرة تتجمع ببطء من داخل نفسي أيضا، وتظل كامنة تنتظر البرق أو العاصفة التي تفجرها على نحو ما تنتظر أرض الربيع العاصفة أو المطر، لكي تتشقق وتبرز ما في جوفها من أزهار وعشب وألوان.»
إن القصيدة ليست وليدة لحظة يدعوها داع فتستجيب، ولا هي نديم ليلة يباغتها صبح قريب، بل هي تراكم واستحضار ومخاض عسير. فلكم يلقى الشعراء من جهد ويعانون من مشقة لإنتاج نصوصهم، فليس الشعر أوزانا وقوافي، وتلاعبا بالألفاظ، كما أنه ليس موهبة فقط، ولعل البحث في سؤال الإبداع وآلياته لمن أصعب قضايا الإبداع الشعري.
وإنك لتجد بعض الذين يركبهم الغرور بأنهم أهل الشعر والشعر في زعمهم كلام موزون مقفى، وما خرج عن ذلك إنما هو هدر وهراء، لتجدنهم أحيانا يمتلكون القدرة على الوزن ولكنهم لا يكسبون من روح الشعر شيئا، فشعرهم عبارة عن نظم هو أقرب إلى الشعر التعليمي في الفقه واللغة، ثم يركبهم الغرور مرة أخرى ويتهجمون على غيرهم، فيدعون أنهم دعاة خير يرشدون الناس للقيم والأخلاق والاحترام والتقدير، فإذا قرأت كلامهم تستطيع وبسهولة أن تستشف منه الحقد الأصفر والبغض الأسود، والضغينة الحمقاء، والاحتقار المهين، والتهجم القبيح، والقذف المقذع، والهجاء الفاحش، ولعمري هذا أشين وأقبح في نظري من التغزل الذي يرفضونه، وهم يدعون أنهم يحبون الله ورسوله وجاءوا لإنقاذ الشعراء المتغزلين، ولو أنهم صدقوا في حبهم لله لصلوا وركعوا وطلبوا لهم الهداية ونصحوهم بالحكمة، إنهم يحدثونك عن الموعظة الحسنة وترك الجدال والمراء، وأنه لا يؤمن أحدهم حتَّى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه، ثمّ يسارعون للافتخار والتباهي بالأوسمة والتقديرات والتشريفات الورقية، حسبهم أن لهم من الغرور ما يكفي، ومن الخيلاء ما ينم عن سذاجة واضحة، ودناءة فاضحة، والله أعلم بهم إذا أسروا هل طلبوا الغواني أم فروا، وقد صدق رمضان البوطي رحمه الله حين قال: ولو كانت الذنوب تفوح لما جلس أحدنا بجانب صاحبه.
قد يكون المتغزل مذنبا بينه وبين ربّه ولربما كان مدّعيا أو كاذبا وقد قيل: أعذب الشعر أكذبه، أما هؤلاء الأدعياء فقد أساءوا لأنفسهم أولا، ثم بدل أن يكسبوا الناس ضيعوهم ونشروا الحقد والبغض والضغينة، ولك أن توازن بينهما.
أنا لا أدعي أني محقٌّ وعلى صواب في كل قولي، فلعمري هذه وجهة نظري، ولك أن تنصحني وترشدني بالتي هي أحسن، ومع ذلك لست كارها لهؤلاء ولا لغيرهم إني أحمل حبّا ومودة للجميع حتىّ للذي رفضني أو كسّر قلبي. وقد صدق الفيلسوف الصوفي محي الدين بن عربي حين قال:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ
فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ
وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ
ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني
وفي النهاية أعتذر عن الإطالة أو سوء الإبانة والله ولي التوفيق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .