زورق الموت
من لا يعرفه؟! من لا يعرفه وابتسامته زرعت الأمل في نفوس كل المحيطين به؟ من لايذكر قهقهاته العالية التي انغرست في مسامع الأصدقاء والجيران؟
إنه يوسف؛ ذاك الشّاب المفعم بالحيوية، أحبّ الجميع فأحبّوه، لم يتوان لحظة في مساعدة الآخرين؛ ينظر من حوله فيُبصر أمه المريضة، ضحّت بالغالي والنّفيس حتى أوصلته إلى برّ الأمان. أما آن الأوان لهذه المخلوقة أن ترتاح؟
أما صورة والده المعلّقة على الجدار، فكُلّما حلّق ببصره صوبها، زادت الجراح عُمقا والتهابا.
يجول ببؤبؤيه في زوايا المنزل، فيلمح إخوته الخمسة وقد تحلّقوا حول المائدة يأكلون قطع الخبز الحافي، ويرتشفون كؤوس الشاي الصغيرة، فيحسّ بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه. حان الوقت ليكون رجل البيت فيرعى أمّه وإخوته. سيقوم بجولة في مدينته الصغيرة علّه يجد عملا يزاوله فيّسعد أسرته.تأهّب يوسف للخروج بعدما طبع قبلة حارّة على جبين أمّه يلتمس منها رضاها، ثّم خطا خطاه، فسار بين الدروب يسأل، يبحث ويناشد علّه يجد منقذا، يطرق الأبواب حتى كَلّت قدماه، وتبعثرت خطاه، ولا مجيب.
المشي أتعبه، والعالم المسكون باللّامبالاة أخرس رغبته في المواصلة والكفاح، فعاد إلى منزله خاوي الوفاض ليقبع في ركن من أركان بيته.
فراغ عميق يسكن غرفته المظلمة، وخيوط الظّلمة الدّاجية كبّلت ثغر ابتسامته، ضحكاته المعهودة صارت صامتة فتسلّل لهيب لا مرئي إلى قلبه ليحرق رغبته في الحياة. أما حلمه في وجود عمل فقد أصبح سرابا.
كان يبدو جليّا أن كل شيء فيه تغيّر؛ فغادرته نشوة الاستمتاع بالدنيا، وانهالت عليه أشباح الإحباط من كل جانب بلسعاتها المميتة لتندثر رغباته الصّامتة وتصبح أشلاؤها عدم.
يوسف أضناه التفكير فدغدغ مشاعره المُرهفة، يغالب الكرى الّذي يفرّ من جفونه، يتظاهر بالغفالة لكنّ الحقيقة صامدة .
صار لابد له من حلّ للخروج من هذا المأزق الذي صنعته له الأقدار، عليه أن يُهشّم أسوار هذا الحصار. فكّر مليّا؛ فأبصر هناك في الأفق البعيد نقطة ضوء وقد بعثت أشعّتها نحوه، لكنه حائر في هذه اللّحظة بالذات؛ هل يسارع نحو بصيص الأمل الجديد ويركب الامواج، أم يظلّ مختبئا في بيته المهترئ؟ فلا وجود لخيار ثالث بينهما.
يوسف ما أراد بهذا عبثا، سيطاوع تلك الخفقات الموجعة ليرسم طريق مستقبله المجهول، سيُعدّ زاده وينتظر حلول اللّيل ليختبئ في ظلمته، دون أن يودّع أمّه وإخوته.
في هذا الدّيجور القاتم، يلتحق يوسف بمن رسموا لمستقبلهم نفس المسار، فينتظر إلى جانبهم على الضّفة اليائسة قدوم ذاك الزّورق المجهول الهوية لينتشلهم من الحرمان، ويحلّق بهم فوق الأمواج صوب أحلامهم التي سبقتهم إلى بلاد ظنّوا أنّها ستُخلّصهم من ذكرياتهم البائسة. حانت اللّحظة الحاسمة، والزّورق جاهز ينتظرهم، يتوافدون عليه الواحد تلو الآخر. يوسف لن يعود، سيركب إلى جانب هؤلاء الذين جمعته بهم هذه الليلة السّوداء البشعة.
اِنطلق المركب يمتطي الأمواج، وراحت عيونهم تبحث عن الضّفة، لكنها بعيدة، وأحلامهم الوردية تنتظرهم في تلك البلاد النّائية، الزّورق يطوي المسافات، ويوسف يستعيد الذّكريات؛ فيتذكّر صورة أمه الحبيبة، يصغي إلى هتاف إخوته المغروس في مسامعه. صوت من داخله يناديه: "ماهذا الهراء؟" لكن، لا مجال للعزوف عن القرار.
يصغي لحديث هؤلاء وهو صامت من دون أن ينبس بكلمة، يتأمّل ضحكاتهم المصنّعة وهو يحسّ بالمرارة الدّفينة في جوارحهم، هو لا يعرفهم لكنه يدرك قاسمهم المشترك، كلهم يفكرون بنفس الطريقة، كلهم يحلمون بالمستقبل البهيج الذي سيستقبلهم في بلاد لا ناقة لهم بها ولا جمل.
لكن وجهة نظر البحر كانت مختلفة تماما، فهو ينتظرهم بكل شوق، والأسماك أعدّت التّوابل لتضيف نكهتها الفريدة لأجسامهم، وتصنع منهم وجبة لذيذة، كذلك هي الرّمال مشتاقة لمعانقة رفاتهم، أما اللّيل المظلم فيشفق على أحلامهم التي سبقت الأحداث. فجاة، بدأ دويّ ناقوس الخطر يدقّ، أو ربّما هي عقارب العدّ العكسي استيقظت من سُباتها على إثر صوت الأمواج المُريع الذي يداعب أجزاء الزّورق من كل جانب، مشاعر الحسرة على أرواحهم سكنتهم، والنّدم على ركوب الأمواج الخطيرة يقارع ضمائرهم، لكن، كل هذا لن يجدي نفعا؛ لأنهم عبروا إلى سكة الهلاك.
أين أحلامهم الآن؟ أين نقطة الضّوء تلك التي انبثقت فجأة؟ لا شيء سوى القدر المشؤوم ينتظرهم، لا أحد منهم يستطيع مواجهة الموت؛ فغضب البحر وهيجانه أوقعهم في قبضة الفشل، ولا حلّ سوى الاستسلام للأمواج، للأسماك و للرّمال. يغرق الزورق ويختفي المشهد ... فتغرق الأحلام وتضمحل.
بعد ساعات
يوسف هناك ملقى على الرّمال وقد سرق منه البحر ملابسه وأحلامه، تجمّع الناس من حوله يتأمّلون جسده الملطّخ بالرّمال، إنّه جثة هامدة، حرام أن يضيع هذا الشّباب! حرام ان تكون النهاية هكذا!
لحظة! الشّابّ يتنفّس، لا زال قلبه ينبض بالحياة، إذن لن يحملوه على النّعش، سيضعوه فوق سرير حديدي ويأخذوه إلى المشفى علّه يعالج.
يوسف يتماثل للشّفاء، يستيقظ من سُباته العميق، من جديد يستنشق نسمة الحياة ويعانق الفرصة الجديدة التي داعبت أوتار جوارحه، هو يوسف الذي عاد من رحلة كانت ستقوده نحو المجهول، هو الشاب الذي نجا من موت محقّق؛ لم ينم إلى الأبد، لم يصبح جسدا فارغا.
تذكّر أمه، إخوته وجيرانه، تذكّر بيته الدافئ، وطنه. سينسى تلك الليلة المظلمة وسيبتر الجزء الذي غُرست فيه من ذاكرته، لكنه لن ينسى أسرار البحر المرعبة.
هو هنا في بلده، سيستظلّ بظلّه، سيعيش في كنفه، سيبحث عن أحلامه مهما كانت بسيطة. لقمة العيش صعبة لكنها ليست مستحيلة، القناعة سرّ السعادة. يوسف سيبحث، سيجدّ، سيستمتع بثمرة عرق الجبين. قد يلتحق بورشة للبناء، للخياطة أو للنّجارة. وقد يبيع الورود وحزم البقدونس والنّعناع. المهم لقمة عيش حلال في بلد هو قطعة منه.
لكنّه لن يجعل لأحلامه سقفا، بل سيُطلق لها العِنان، ومن يدري؟ قد تأتيه البِشارة يوما فيُعاد الاعتبار لشواهده المدسوسة في رفوف الصّوان وتبعث أحلامه المدفونة في داخله.
بقلم الطفلة عبير عزيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .