أنا أو لا أحد!
في قصر منيع الجهات عظيم الأسس يسمى "بلاط العقل"...، كان العقل فيه ملكا متوجا على كافة الحواس، وكان المنطق ذراعه الأيمن، والروح ذراعه الأيسر...
كان العقل ملكا صارما وأحكامه مبنية على براهين وأدلة فلا ينازعه في ذلك أحد، وكان القلب مهرج القصر وروحه المرحة التي تجوب أرجاء البلاط مرحا وفكاهة.
لكن القلب لم يكن راضيا بهذه الوظيفة التي أوكلت إليه، فكان يحاول في كل اجتماع التعبير عن عدم رضاه بهذا العمل، فكان جزاؤه في كل مرة الطرد من الاجتماع.
سئم القلب من هذه المعاملة والازدراء وتسفيه الرأي والأحكام الجافية القاسية، وكانت كثير من الحواس تسانده في ذلك سرا، خوفا من سطوة العقل وجبروته.
قرر القلب هذه المرة أن يفعل شيئا ...فإلى متى سيبقى على هذا الحال؟
لابد من فعل شيء ما يخرجه من حالة الجمود التي فرضت عليه فرضا...
اجتمع القلب ببعض الحواس وفكروا معا في حيلة تمكنهم من الحصول على امتيازات أخرى والتأثير على العقل والحد من تسلطه.
لم يكن بوسع القلب المواجهة فقد كان ضعيفا مرهف الحس، بالرغم من قيمته وتأثيره، لكنه فكر هذه المرة بعمق وتمكن من حشد الأحاسيس والمشاعر في مواجهة العقل.
وفعلا نجح في ذلك وتمكن من مواجهة العقل أخيرا !! ...
استشعر العقل خطر هذا الحشد الذي لم يسبق وأن اجتمعت ضده في يوم من الأيام، أحس فعلا بأن عرشه بات على كف عفريت...
لكنه كان ذكيا بما يكفي ليخرج من هذا المأزق...
بدأ العقل بإلقاء كلمة على الحضور وبين لهم فيها قيمة العقل ودوره وأحقيته بالملك والسلطان، بل وأخذ يعدد في فضائله ومناقبه قائلا:
-العقل هو الذي يميز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، فمن فقد عقله فقد عزه وقدره...، ألم تسمعوا قول الشاعر:
ليس الجمال بأثواب تزيننا
إن الجمال جمال العقل والأدب
وقول ابن دريد:
وأفضل قسم الله للمرء عقله
فليس من الخيرات شيء يقاربه
فزين الفتى في الناس صحة عقله
وإن كان محظورا عليه مكاسبه
ويزري به في الناس قله عقله
وإن كرمت أعراقه ومناسبه
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله
فقد كملت أخلاقه ومآربه
هنا كان لابد للقلب من التدخل العاجل، فلو استرسل العقل في الكلام فلن تكون له فرصة لتوضيح موقفه والدفاع عن حججه، فبادره بالقول:
-إذا كانت لك فضائل ومناقب فأنا كذلك أملك مثلها وربما أكثر، فلا يستقيم جسد بقلب عليل، فإذا تثاقلت في عملي أهلكت مملكتك !!
وإذا لم أعن على البوح بالمشاعر لما استقامت حياة الناس بلا قلب ولا حب ولا إحساس... ثم استطرد قائلا:
-أليس العقل هذا هو نفسه الذي قاد البشر إلى الحروب والمجازر.. وإلى عالم مليء بالفساد والرشوة والتخلف، وكل ذلك تحت غطاء النهضة والحضارة والعولمة و...؟
- أليس العقل هو من يقدم مناهج للتعليم ويقدم المحاضرات المختلفة في سبيل التقدم والتحرر من الجهل..؟
-والنتيجة يا سادة أن الجهل في انتشار والتخلف يضرب بأطنابه...
لم يكن العقل يتوقع إجابة قوية كهذه من القلب، فقد عهده مهرجا بالقصر، ولم يكن يراه ذكيا بما يكفي..
ومع ذلك فإن العقل لم تكن تنقصه الحيلة... ويبدو أنه قد وجد مخرجا.
قال العقل:
-ما كان لكل ما ذكرته أن يحدث لولا أن وجدت العقول المتحجرة قلوبا قاسية مثلها وساهما معا في تدمير قيم البشرية وحضاراتها !!
كانت إجابة مزلزلة ، غير أنها لم تكن كافية لفض هذا النزاع، كان لابد من توحيد وتجميع الصلاحيات بيد حاكم واحد.. ولكن كيف السبيل؟ !!
في قصر منيع الجهات عظيم الأسس يسمى "بلاط العقل"...، كان العقل فيه ملكا متوجا على كافة الحواس، وكان المنطق ذراعه الأيمن، والروح ذراعه الأيسر...
كان العقل ملكا صارما وأحكامه مبنية على براهين وأدلة فلا ينازعه في ذلك أحد، وكان القلب مهرج القصر وروحه المرحة التي تجوب أرجاء البلاط مرحا وفكاهة.
لكن القلب لم يكن راضيا بهذه الوظيفة التي أوكلت إليه، فكان يحاول في كل اجتماع التعبير عن عدم رضاه بهذا العمل، فكان جزاؤه في كل مرة الطرد من الاجتماع.
سئم القلب من هذه المعاملة والازدراء وتسفيه الرأي والأحكام الجافية القاسية، وكانت كثير من الحواس تسانده في ذلك سرا، خوفا من سطوة العقل وجبروته.
قرر القلب هذه المرة أن يفعل شيئا ...فإلى متى سيبقى على هذا الحال؟
لابد من فعل شيء ما يخرجه من حالة الجمود التي فرضت عليه فرضا...
اجتمع القلب ببعض الحواس وفكروا معا في حيلة تمكنهم من الحصول على امتيازات أخرى والتأثير على العقل والحد من تسلطه.
لم يكن بوسع القلب المواجهة فقد كان ضعيفا مرهف الحس، بالرغم من قيمته وتأثيره، لكنه فكر هذه المرة بعمق وتمكن من حشد الأحاسيس والمشاعر في مواجهة العقل.
وفعلا نجح في ذلك وتمكن من مواجهة العقل أخيرا !! ...
استشعر العقل خطر هذا الحشد الذي لم يسبق وأن اجتمعت ضده في يوم من الأيام، أحس فعلا بأن عرشه بات على كف عفريت...
لكنه كان ذكيا بما يكفي ليخرج من هذا المأزق...
بدأ العقل بإلقاء كلمة على الحضور وبين لهم فيها قيمة العقل ودوره وأحقيته بالملك والسلطان، بل وأخذ يعدد في فضائله ومناقبه قائلا:
-العقل هو الذي يميز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، فمن فقد عقله فقد عزه وقدره...، ألم تسمعوا قول الشاعر:
ليس الجمال بأثواب تزيننا
إن الجمال جمال العقل والأدب
وقول ابن دريد:
وأفضل قسم الله للمرء عقله
فليس من الخيرات شيء يقاربه
فزين الفتى في الناس صحة عقله
وإن كان محظورا عليه مكاسبه
ويزري به في الناس قله عقله
وإن كرمت أعراقه ومناسبه
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله
فقد كملت أخلاقه ومآربه
هنا كان لابد للقلب من التدخل العاجل، فلو استرسل العقل في الكلام فلن تكون له فرصة لتوضيح موقفه والدفاع عن حججه، فبادره بالقول:
-إذا كانت لك فضائل ومناقب فأنا كذلك أملك مثلها وربما أكثر، فلا يستقيم جسد بقلب عليل، فإذا تثاقلت في عملي أهلكت مملكتك !!
وإذا لم أعن على البوح بالمشاعر لما استقامت حياة الناس بلا قلب ولا حب ولا إحساس... ثم استطرد قائلا:
-أليس العقل هذا هو نفسه الذي قاد البشر إلى الحروب والمجازر.. وإلى عالم مليء بالفساد والرشوة والتخلف، وكل ذلك تحت غطاء النهضة والحضارة والعولمة و...؟
- أليس العقل هو من يقدم مناهج للتعليم ويقدم المحاضرات المختلفة في سبيل التقدم والتحرر من الجهل..؟
-والنتيجة يا سادة أن الجهل في انتشار والتخلف يضرب بأطنابه...
لم يكن العقل يتوقع إجابة قوية كهذه من القلب، فقد عهده مهرجا بالقصر، ولم يكن يراه ذكيا بما يكفي..
ومع ذلك فإن العقل لم تكن تنقصه الحيلة... ويبدو أنه قد وجد مخرجا.
قال العقل:
-ما كان لكل ما ذكرته أن يحدث لولا أن وجدت العقول المتحجرة قلوبا قاسية مثلها وساهما معا في تدمير قيم البشرية وحضاراتها !!
كانت إجابة مزلزلة ، غير أنها لم تكن كافية لفض هذا النزاع، كان لابد من توحيد وتجميع الصلاحيات بيد حاكم واحد.. ولكن كيف السبيل؟ !!
وإذ هما في معرض الحديث عن فضائل كل واحد منهما سمعا صوتا من خلف الصفوف:
-أيها السادة لا أحد ينكر فضلكما أو يجحد دوركما، ولكن أرى أنكما بهذا الحديث تبخسون البقية حقهم.
لقد كان العلم وقورا فصيح اللسان وعظيم البيان، غير أنه لم يكن يطمع في ملك ولا سلطان، إنما أراد أن تكون له كلمة وألا يهمل دوره كمستشار، وألا تذهب مقترحاته أدراج الرياح.
ثم واصل "العلم" الكلام بقوله:
-أيها الحضور لا أريد أن أطيل عليكم، وإنما أردت أن لا يهمل العلم في مملكتنا هذه، وإن كنت غير طامع في سلطان ولا جاه، فإن مكانتي يجب أن تبقى محفوظة عالية تماما كما تحفظ مكانة السلطان !.. ثم أنشد عليهم قولا مأثورا:
علم العليم وعقل العاقل اختلفا
من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعلم قال أنا أحرزت غايته
والعقل قال أنا الرحمن بي وصفا
فأفصح العلم إفصاحا وقال له
بأينا الله في قرآنه اتصفا؟
فبان للعقل أن العلم سيده
فقبل العقل رأس العلم وانصرفا
قام العقل من مجلسه وقبل رأس العلم وقال له:
-ها نحن قد قبلنا رأسك وحفظنا لك مكانتك، أرجو أن تترك لنا المجال لفض هذا النزاع، وإنهاء هذا الصراع !!
خرج العلم من المجلس تاركا الصراع محتدما بين الأجنحة المتنافسة، ثم قدم العقل مقترحا يقضي باقتسام السلطات بين العقل والقلب...
لقيت هذه المقترحات تجاوبا وتوافقا بأن يتولى العقل التدبير والتخطيط، ويقوم القلب بالتحسيس والتغطية على أخطاء العقل المحتملة...
وبينما تتم إجراءات اقتسام السلطة بينهما سمعا صوتا قويا:
- أرى أن الأمر قد حسم بينكما، ولم تكلفا نفسيكما عناء طلب رأينا ومشورتنا !!.
- كيف سيكون هذا السلطان من دوني؟ فلا أحد منكما قادر على الحكم، ولا يصلح لهذا الأمر أحد غيري !؟.
..لكن هناك اعتبارات خاصة تمنعني من تولي هذه المسؤولية، لذلك ستكونان أنتما في الواجهة بينما أحكم أنا في الخفاء !!..
ألقى "المال" كلمته هذه دون أن ينتظر ردا ، وخرج من المجلس مزهوا معتدا بنفسه، وهو يقول:
ولم أر مثل الفقر أوضع للفتى
ولم أر مثل المال أرفع للنذل !!
-أيها السادة لا أحد ينكر فضلكما أو يجحد دوركما، ولكن أرى أنكما بهذا الحديث تبخسون البقية حقهم.
لقد كان العلم وقورا فصيح اللسان وعظيم البيان، غير أنه لم يكن يطمع في ملك ولا سلطان، إنما أراد أن تكون له كلمة وألا يهمل دوره كمستشار، وألا تذهب مقترحاته أدراج الرياح.
ثم واصل "العلم" الكلام بقوله:
-أيها الحضور لا أريد أن أطيل عليكم، وإنما أردت أن لا يهمل العلم في مملكتنا هذه، وإن كنت غير طامع في سلطان ولا جاه، فإن مكانتي يجب أن تبقى محفوظة عالية تماما كما تحفظ مكانة السلطان !.. ثم أنشد عليهم قولا مأثورا:
علم العليم وعقل العاقل اختلفا
من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعلم قال أنا أحرزت غايته
والعقل قال أنا الرحمن بي وصفا
فأفصح العلم إفصاحا وقال له
بأينا الله في قرآنه اتصفا؟
فبان للعقل أن العلم سيده
فقبل العقل رأس العلم وانصرفا
قام العقل من مجلسه وقبل رأس العلم وقال له:
-ها نحن قد قبلنا رأسك وحفظنا لك مكانتك، أرجو أن تترك لنا المجال لفض هذا النزاع، وإنهاء هذا الصراع !!
خرج العلم من المجلس تاركا الصراع محتدما بين الأجنحة المتنافسة، ثم قدم العقل مقترحا يقضي باقتسام السلطات بين العقل والقلب...
لقيت هذه المقترحات تجاوبا وتوافقا بأن يتولى العقل التدبير والتخطيط، ويقوم القلب بالتحسيس والتغطية على أخطاء العقل المحتملة...
وبينما تتم إجراءات اقتسام السلطة بينهما سمعا صوتا قويا:
- أرى أن الأمر قد حسم بينكما، ولم تكلفا نفسيكما عناء طلب رأينا ومشورتنا !!.
- كيف سيكون هذا السلطان من دوني؟ فلا أحد منكما قادر على الحكم، ولا يصلح لهذا الأمر أحد غيري !؟.
..لكن هناك اعتبارات خاصة تمنعني من تولي هذه المسؤولية، لذلك ستكونان أنتما في الواجهة بينما أحكم أنا في الخفاء !!..
ألقى "المال" كلمته هذه دون أن ينتظر ردا ، وخرج من المجلس مزهوا معتدا بنفسه، وهو يقول:
ولم أر مثل الفقر أوضع للفتى
ولم أر مثل المال أرفع للنذل !!
وقع العقل والقلب في حرج شديد. ولكن ما باليد حيلة، فقد وقعا في قبضة حديدية، ولا يسعهما إلا الخضوع لسطوة المال !!!.
خلدون محمد أمين/ الجزائر
خلدون محمد أمين/ الجزائر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا وسهلا ومرحبا بك في مدونة واحة الأدب والأشعار الراقية للنشر والتوثيق ... كن صادقا في حروفك ويدا معاونة لنا ... فنحن حريصين علي الجودة ونسعي جاهدين لحفظ ملكية النص .